NaZmiUS ORIGINALITY MOVEMENT NEW WEBSITE

































 

في رحيل خوسيه ساراماغو:

 

 عندما قال لي جدي 'الليلة سننام تحت شجرة التين'!

 

ابراهيم درويش

 

6/20/2010

 

كان اخر كتاب اصدره الروائي البرتغالي المعروف وحائز نوبل عام 1998 خوسيه ساراماغو (1922 -2010)، هو 'المفكرة'، وهو عبارة عن مدونات ومقالات سياسية تشجب اسرائيل وجورج بوش وسيلفيو برلسكوني والاصولية. وبه انهى ساراماغو حياة حافلة في النشاط الادبي والسياسي، وجعلته الصوت الباحث والموثق لروح البرتغال في ماضيها وحاضرها. وبالنسبة لمؤيدي اسرائيل في الغرب فقد ربطوا بينه وبين تصريح القاه عام 2002، اثناء زيارة تضامنية قام بها مع عدد من الكتاب الى رام الله، ووصف فيها معاملة اسرائيل للفلسطينيين بانها لا تختلف عن الهولوكوست. وقام هذا الكاتب اليساري النزعة، الذي توفي يوم الجمعة (18 حزيران (يونيو)) في لازارناتو في جزر الكناري بالمنافحة عن التاريخ وبؤس الانسان وعذاباته. فعبر سلسلة من الروايات التي جمعت بين التجريبية السيريالية والحياة الريفية، وبين الطلائعية والتقليدية، اضافة لاعمال شعرية ومسرحية اخرى، قدم ساراماغو تاريخا روائيا للعنف والديكتاتورية ومحاكم التفتيش، وقدم صوته وصورته في عدد من الشخصيات الروائية، وهو وان بدأ ينشر اعماله الادبية في سن مبكرة الا انه انتظر طويلا كي يحتفى به وباعماله. فقد كتب مرة انه لو مات في سن الستين لمات وكأنه لم يكتب شيئا، ذلك ان اول عمل روائي لقي نجاحا، كان روايته 'دليل للرسم والخط' (1977). وتمثل حياته الادبية خطا من التقدم والعمل الجاد في الكثير من الاعمال، اولها ميكانيكي لمساعدة عائلته الفقيرة، ومصحح في دار نشر وكاتب غير متفرغ ومترجم بعدها في دائرة للتحرير والانتاج في دار نشر، وعمل في عدد من الصحف المحلية، منها فترة قصيرة محررا ادبيا في جريدة 'سيرا نوفا'، وعمل بعد وفاة الديكتاتور انطونيو سالزار عام 1970 معلقا سياسيا في صحيفة 'دياريو ليسبوا'، ونظرا لمواقفه الثابتة وافكاره اليسارية، حيث انضم الى الحزب الشيوعي الممنوع في البرتغال عام 1969، فقد تم طرده من عمله عام 1975. وكان الطرد بمثابة الرحمة المزجاة له، لانه كرس حياته للكتابة والتأليف، وتذكر ساراماغو الحادث قائلا: 'كان طردي احسن حدث 'حظ' في حياتي'، ومضى يقول 'لقد جعلني اتوقف مليا وافكر، وكان بداية لحياتي كاتبا'. كل هذا على الرغم من انه مارس الكتابة كهواية وعمل يومي في سن مبكرة، ولكن الكتابة لم تكن خيارا محبوبا بالنسبة لشاب ينتمي للطبقة الكادحة وابن عائلة فلاحة هاجرت للمدينة كانت بحاجة للمال والدعم اليومي لتوفير لقمة العيش. وكان اول كتاب اصدره عام 1947، وهو كتاب 'ارض الاثم'، الذي نفدت نسخه من المطابع ولم يلق الكتاب النجاح الكبير في حينه، حيث عبر عن ارتياحه لاختفاء العمل من المجال العام. وانتظر ساراماغو عشرين عاما اخرى كي ينشر كتابا جديدا، ليس من اجل تأكيد ابداعيته، ولكن لانه اصبح معارضا لنظام سالزار. ومن هنا انخرط في سلك الكتابة الصحافية، التي ظلت الطريقة الاثيرة لدى الكاتب كي يعبر ويسجل مواقفه تجاه احداث الساعة وما يجري في العالم، فمن خلال الكتابة الصحافية كان قادرا على النقد والتعليق على ما يجري في العالم من انتهاكات وخروقات لحقوق الانسان. وفي الوقت الذي واصل فيه ساراماغو كتابته الصحفية كفعل يومي سياسي، فقد تطورت كتابته الادبية وطرأ عليها الكثير من التغييرات. ففي الفترة ما بين عام 1966 - 1976 نشر ثلاثة اجزاء ضمت اشعاره، ونشر مجموعة اخرى من اربعة اجزاء ضمت اعماله ومقالاته التي تناولت الكثير من الموضوعات السياسية والاجتماعية. واخذ ساراماغو وقتا طويلا في التجريب الروائي قبل ان يتوصل الى اسلوبه الخاص، فقد عانت محاولاته الاولى، التي بدأت تظهر منذ عام 1970، من مشكلة حشد الكثير من المعلومات التاريخية والسياسية في الرواية الواحدة كما بدا في روايته 'الانبعاث من الارض' (1980) ويبدو الكاتب متأثرا في هذه المرحلة بالكتابة الروائية الاجتماعية عند كل من بلزاك وزولا. ومع مرور الوقت بدأ يكتشف ويستكشف ارضا للرواية، التي صارت تأتي له عبر فكرة او اسم ادبي او حتى جنس من الاجناس الكتابية، وهو ما بدا في روايته 'دليل للرسم والكتابة' و'عمى'. وكانت اولى رواياته، التي حققت نجاحا، هي 'عام موت ريكاردو ريس '(1984)، التي قامت على واحد من الاسماء المستعارة، التي كان يستخدمها الشاعر المعروف فردينادو بيسوا. وعادة ما قارن النقاد اعماله هذه بكتابات فرانز كافكا وخورخي لويس بورجيس. تناول ساراماغو في رواياته الكثير من الموضوعات، منها محاكم التفتيش وشرور الامبراطورية والاستعمار. ومع الاهتمامات السياسية ونقد الدين، حيث لم تكن الفاتيكان ولا المؤسسة الثقافية في البرتغال راضية عن كتاباته، اضاف ساراماغو، خاصة في اعماله الاخيرة ابعادا فلسفية وقيامية، كما في روايتي 'كل الاسماء' (1997) و'المغارة' (2002) وهما الروايتان اللتان تناول فيهما الكاتب فكرة موت الفرد بسبب البيروقراطية. ومعها اهتم ساراماغو بقوة الكلمة واثرها كوثيقة عن الحياة وكسجل، ومن هنا فالتفاصيل الصغيرة تظل مهمة، والباحثون في حياته وجذور عائلته لاحظوا ان كاتب سجلات اخطأ واضاف اسم ساراماغو، وهو لقب عائلته الى اسمه الاول خوسيه ولم ينتبه احد الى هذا الخطأ الا بعد ان انضم عام 1929 الى المدرسة، وهنا خطأ اخر وهو ان تاريخ ولادته في شهادة الميلاد في يوم 18 تشرين الثاني (نوفمبر) بدلا من 16 من الشهر نفسه.

 

الكاتب والشخصية والمتدرب

 

وهذا الحس الباحث عن الحقيقة والتاريخ والواعي للماضي يظهر في مقال كتبه ساراماغو عن تجربته الروائية والبذور التي ادت لولادتها من قاع التجربة في الريف ومن جذور تاريخ 'الامبراطورية البرتغالية' والسلب والنهب ومحاولة تصحيح الماضي والمستقبل والحاضر الديكتاتوري. ففي المقال الذي ترجمته للانكليزية مارغريت جول كوستا عام 1999 تحت عنوان 'كيف اصبحت الشخصية معلما والكاتب متدربا'. القى فيه خوسيه ظلالا على تجربته الروائية، ورحلته من قرية صغيرة وعائلة فلاحة من قلب البرتغال ليصبح اهم كاتب برتغالي في القرن العشرين، وقد منحته نوبل الجائزة عام 1998 بعد ان كان اشهر كاتب حي في الادب الناطق باللغة البرتغالية. وفي المقال اضاءة على اهم المحطات التي رافقت تجربة الكاتب، الذي عمل في اكثر من مهنة واصبح موثق تاريخ وحاضر البرتغال، واتسمت اعماله ببحث تاريخي عن اسباب العنف وحس تاريخي بالظلم وجشع الانسان وبيروقراطية المؤسسة، التي غيرت اسمه وتاريخ مولده ووثائقه وسجلاته الرسمية.

 

الجد والجدة كابطال في الرواية

 

وبالعودة للمقال ففيه يصف علاقته مع جده وجدته لامه وحياته اليومية معهما، التي كانت تبدأ في قرية ازينغا من اقليم راباتيخو قبل الفجر، ومعه يبدأ روتين الحياة الزراعية اليومي من فلاحه ورعاية للماشية التي كانت في حالة جده رعاية الخنازير. ويصف جده، الذي يرى انه من احكم الناس الذين عرفهم، بالامي الذي لم يكن يقرأ او يكتب، وكيف كان هذا الجد واسمه جيرمينو وجدته جوزيفا في ليالي البرد القاسية يذهبان الى حظيرة الخنازير ويأخذان اصغر خنزير ويضعانه في فراشهما كي يمنحاه من الدفء الانساني ما يقيه شر البرد في الحظيرة، وهو رأى في هذا العمل جزءا من طبيعتهما الانسانية ولم يكن دافعهما الرحمة، مع انهما لم يكونا شخصين سيئين. حياة خوسيه في القرية كانت مثل كل حياة الفلاحين، ندح الماء من البئر او عين القرية العامة وحمله على الكتف، ومن ثم حمل المجراف والمضي لمساعدة جده الراعي. وخوسيه الصبي في تلك الايام كان يعين جده في حفر وحراثة الارض حول البيت وقطع الاخشاب من اجل نار المساء والطبخ. وكان يجمع العيدان اليابسة من حقول القمح كي تستخدم كفراش تنام عليه الحيوانات. كان للصيف جوه الخاص، ففي الايام الصافية يختار الجد مع حفيده شجرة تين معروفة كي يناما تحتها ويتمتعا بهدوء الليل ونسيم القرية العليل، حيث يقول الجد: 'خوسيه، في هذه الليلة سننام تحت شجرة التين. كان خوسيه يعرف اي شجرة تين من الشجرتين المعرشتين حول البيت. والسبب في اختيار الجد لتلك الشجرة بالتحديد لانها الاقدم عمرا والاكبر و'لانها كانت دائما في مكانها، شجرة تين' كما يقول.

 

حكايات لا نهاية وبداية لها

 

في تلك الليالي كان الجد يحكي للحفيد، الذي يدمن على السؤال، حكايات يختلط فيها الحسي بالخيالي ويظهر فيها ابطال اسطوريون، حروب بالعصي وكلمات تستعيد حكمة الاجداد ووشوشات الذاكرة، التي كانت تبقيه مستيقظا حتى يهزمه النوم. يقول خوسيه انه لم يكن يعرف ان كان جده يتوقف عن الحكي بعد نومه حتى لا يترك الاسئلة، التي طرحها الحفيد بدون جواب، والتي كانت تأتي على صيغة 'ثم ماذا حدث بعد ذلك'، ام لا، لكنه يواصل قائلا ان الجد الحكيم ربما كان يحكي القصص لنفسه حتى لا ينساها او يعيد صياغتها بطريقة جديدة. وكأي صبي نشأ خوسيه وهو يحمل فكرة ان جده هو حامل كل المعرفة في العالم. وفي الصباح كان يستيقظ خوسيه ويطوي غطاءه ويمشي حافيا، حيث كانت قهوة جدته وفتافيت من الخبز تنتظره للفطور، ويشير هنا الى انه ظل يمشي حافيا في القرية حتى بلغ سن الرابعة عشرة. وكان السؤال الاول الذي توجهه له جدته على طاولة الفطور: هل نمت جيدا؟ وان كان رأى منامات مرعبة بسبب قصص جده، لتذكره ان الاحلام تظل خيالات واحلاما غير حقيقية. وعلى الرغم من احترامه لجدته ومعرفتها بالحياة، الا انه كان يرى انها لم تكن على مستوى المعرفة التي يملكها جده، الذي كان يحرك العالم بكلمتين. وعلى خلاف كلماتها المشجعة اكتشف خوسيه ان الجدة كانت تؤمن بالمنامات، فعندما كانت تغلق الباب كانت تعلق ان العالم جميل، ويسكنها الحزن للتفكير انها ستتركه يوما وتموت. فهي لم تقل انها كانت خائفة من الموت، بل كانت حزينة لانها ستموت كما يقول. ويتذكر الروائي جده حاكي الروايات وناسج الذكريات ان الجد عندما احس بقرب الموت ذهب لكل شجرة من اشجار بستانه يحضنها ويقول لها وداعا.

 

احد الاجداد بربري من شمال افريقيا

 

هذه الذكريات عادت اليه عندما ادخل جده وجدته التي كانت تتمتع بجمال غير عادي في الاعمال الروائية كان يقوم مثل جده بمحاولة استعادة الحكايات والتأكيد انه لن ينسى وجوه احبابه والايام الجميلة. ويصف عملية تشكيل وجهي جده وجدته وتلوين حياتهما ذات الايقاع البطيء المملل، بانها مثل محاولة لاعادة تشكيل خريطة غير متماسكة. وشبه المحاولة هذه بمحاولة اخرى لاستعادة احد اجداد اجداده، الذي يقول انه كان من البربر، من شمال افريقيا، فالمحاولة قادته الى وصف لصورة قديمة لوالده ووالدته، صورة تعود الى 80 عاما، ومن خلال نظرات ووقفة الوالد والوالدة امام الكاميرا يستعيد حس الرهبة من الكاميرا، والجدية البادية والحياء على الوجهين والسلام والجمال. متذكرا ان اليوم التالي بعد الصورة سيطوى مثل اي يوم اخر. ومثل اي كاتب حدث نفسه قائلا ان اليوم سيأتي لكي يكتب عن هذه الاشياء، جد كبير من شمال افريقيا وجد راع للخنازير وجدة جميلة وام واب وسيمان. كان خوسيه يعتقد ان محاولة استعادة الصور والاشياء الجميلة هي طريقة سهلة لقراءة التحولات في الشخص الذي كانه والذي آل اليه، لكنه اكتشف ان الامر ليس بهذه السهولة لان البيولوجيا والجينات لا تحدد الخط الذي يتخذه الشخص في الحياة. فبالنسبة لخوسيه، ما افتقدته شجرة العائلة ليس الاشجار التي تصله بالحياة التي انفصلت عن 'قرمية' الشجرة، ولكن الشخص الذي يحفر في اصل الشجرة، والقادر على الكشف عن طبقات التربة وطبيعة الفواكه. وتظل محاولته تشكيل صورة جده وجدته في عالم الرواية وتجريدهما من اللحم والشحم طريقة مناسبة له كي يبدع في وقت لاحق شخصياته الروائية، وهي الرموز ايا كانت جماليتها وكفاءتها، جيدة ام سيئة تؤشر للشخص الذي وصل اليه ساراماغو اليوم وامس وغدا 'خالق الشخوص الروائية ومخلوقها' في الوقت نفسه.

 

مبدع الشخصية الروائية ومخلوقها

 

وعليه فهو يقول 'حرفا بعد حرف وكلمة بعد كلمة وصفحة بعد صفحة وكتابا بعد كتاب، فالشخوص التي ابتدعتها تجذرت او جذرت نفسها في الشخص الذي صرته' وبدونهم او بدون الشخصيات، التي صنعها وصنعته، يشك في امكانية وجوده. وخوسيه في رسمه الطريقة التي يتفاعل الكاتب الراوي مع شخوصه ويمسك بالضرورة باقدارها هم في الحقيقة من قادوا طريقه وحددوا قدره وهذا باد في شخصية خطاط غير محترف اسمه 'اتش- حرف هاء'، وهو بطل روايته 'دليل للرسم والخط'، فالبطل يمثل رحلته ورحلة المؤلف معا ـ لانه علمه الصدق وكيف يحترم بدون حزازة او شعور بالاحباط، وعلمه حدوده كبشر: فهو ان كان غير قادر على المغامرة والخروج خارج حدود قطعة ارضه فقد اختار الحفر فيها وعميقا، ومع الحفر البحث في جذور العالم وهو مشروع كبير. نتائج الحفر والكتابة، التي نبعت منها تظل جزءا من التراث الانساني فليس لخوسيه، وهو يعترف بهذا الحق، بالحكم عليها ولكنه له الحق بالقول ان كل الكتابات التي انتجها سياسية، اجتماعية او ابداعية ظلت وفية للهدف والمبادئ التي آمن بها ونافح عنها.

 

فقراء خرجوا من قاع الارض

 

فابطال رواياته هم من نفس عينة الفلاحين والبسطاء الملتصقين بالارض والذين خرجوا من تربة سهول الينتيخو وهم من نفس عينة جده جيرمينو وجدته جوزيفا، ممن اجبروا على الكدح كي يعيشوا وينالوا الفتات في ظروف صعبة وغير انسانية. ويقول ان هؤلاء البسطاء الكادحين كانوا ضحية للكنيسة 'الدين المؤسس' والدولة وملاك الاراضي، والظلم الذين حل بهؤلاء الابرياء الذين حاكمتهم عدالة عشوائية المنهج. وجاء التعبير الاول والحقيقي عن هذا الحس الملتمس والملتصق بالفقراء في روايته 'انبعاث من الارض'، التي تتحدث عن ثلاثة اجيال من عائلة مو- تيمو- منذ بداية القرن العشرين حتى عام 1974، اي الثورة التي اطاحت بالديكتاتورية. هؤلاء علموه الصبر والاستمرار في الحياة حتى وان كانت ظروفها قاسية، وهم من علموه اضافة الى رجال وشعراء البلاد، خاصة ذلك الذي كتب مجد البلاد ورثى سفنها المحطمة والامال المتعثرة، والذي كان عبقري اللغة البرتغالية وعميدها الاول، ويشير الى معاناة الشاعر الذي دق على ابواب كل النبلاء والملوك، ويلاحظ ان كل العظماء عانوا في مرحلة ما في حياتهم من ذل اللحظة وقسوتها، العظماء الكتاب الذين كانوا يحملون تحت آباطهم روائعهم وينظرون حولهم، وهم الفقراء وغيرهم الاغنياء، ممن عانوا مع سفن 'الاكتشاف' حتى العميان، وهم يتساءلون اي الفقراء الكتاب ما الذي سنفعله في هذا الكتاب؟

 

بيسوا العالم 'فرجة'

 

شعر خوسيه بالدين للجد والجدة والتاريخ والماضي، الا انه تعامل مع التاريخ بعين الناقد، فهو في روايته 'بالتسار وبيلموندا'، التي تعتبر رائعته حاول ان يؤكد على اهمية توازن العالم بين سبع شموس وسبعة اقمار، وهو ما يعنيه اسما البطل والبطلة بالتسار وبيلموندا، احدهما كان مخترعا لآلة لا تطير الا من خلال الارادة الانسانية وامرأة كانت ترى ما يقبع تحت الجسد الانساني، وخلالهما ملك يبني اكبر كنيسة في الدنيا، وفي داخل الرواية استعادة لتاريخ البرتغال في القرن الثامن عشر. فهذه الرائعة جاءت نتاجا، كما يقول للقصص التي استمعها من جده في القرية، ومن دروس الشعر التي تلقاها من استاذه وهو في الكلية التكنولوجية في لشبونة، ومن الكتب والاشعار التي قرأها في المكتبات العامة وهو عامل ميكانيكي، حيث كان يقرأ بدون ارشاد اي كتاب يقع في يديه. وفي المكتبة العامة ولدت رائعته الاخرى 'العام الذي مات فيه ريكاردو ريس' وهو الاسم الذي استعاره من قصيدة نشرت في مجلة 'اتينا'، واكتشف لاحقا ان الاسم مستعار، وهو واحد من اسماء عدة استخدمها فريناندو بيسوا، وهو الشاعر الذي حفظ كاتبنا اشعاره وكتب ان العالم هو 'فرجة' واختار خوسيه له عام 1936 كي يعيش اخر ايامه، وهو العام الذي احتلت فيه قوات النازية اراضي الرين واعلن فرانكو الحرب في اسبانيا وانشأ فيه سالزار الميليشيا الفاشية في البرتغال، وانهى الكاتب الرواية بعبارات متشائمة وقاتمة تقول 'هنا حيث ينتهي البحر وتنتظر الارض'، مما يعني ان عصر الاكتشافات البرتغالية قد انتهى وقدرها هو الانتظار. لكن الكاتب المتدرب- خوسيه شعر بان هناك امكانية للخروج من ارق الانتظار وجر اليابسة، وهي شبه جزيرة ايبريا الى البحر جنوبا، حيث نزعها من سياقها الاوروبي ونقلها لتتوسط بين مستعمراتها القديمة البرازيل وانغولا ليذكرها بالتاريخ والاستغلال وحملت الرواية اسم 'الطوف الحجري'. فرحيل اوروبا جنوبا جاء من اجل تصحيح الخطأ القديم الذي ارتكبته ضد الجنوب. ويعتقد ان الفكرة جاءته بعد لقاء مع الصحافية الاسبانية بيلار ديل رويو، التي تزوجها فيما بعد وقررا الانتقال والاستقرار في جزر الكناري، واصبحت الصحافية مترجمته الرسمية للاسبانية. ابطال الرواية رجلان وثلاث نساء وكلب يرحلون في شبه الجزيرة المتحركة وفي الرحلة بحث عن النفس والتحول الذي ستتعرض له الشخصيات بعد استكمال الرحلة.

 

تاريخ حصار لشبونة

 

والرواية وان كانت محاولة من الكاتب البحث عن اوروبا الاخلاقية بتصحيح التاريخ وذات طابع مستقبلي الا انه تذكر انه عمل في مرحلة من حياته مصححا في دار نشر، ومن هنا قرر العودة للارشيف وهناك امكانية لتصحيح الماضي وعليه جاءت روايته 'تاريخ حصار لشبونة'، وبطلها ريموندو دي سيلفا ـ رجل عادي ما يميزه انه يرى ان هناك وجهين للحقيقة، احدهما خفي والاخر ظاهر، وانه لا يمكن معرفتها بدون النظر اليها اي الحقيقة من كل الجوانب، ومن بطل الرواية تعلم خوسيه الشك بالتاريخ والدين، ومن هنا جاءت روايته 'الانجيل بحسب السيد المسيح'، والرواية لا تبحث في تناقضات العهد القديم، بل تطرح اسئلة عن الشهادة والفداء والانتظار. في هذه المرحلة من حياته الروائية يشير خوسيه الى ان مشاهد او لحظات كانت تقوده لكتابة رواية او مسرحية، فالاحتفال بمرور 1200 عام على حرب بين المعمدانيين والكاثوليك في المانيا قادته الى كتابة عمل عنها وعن العمى الذين يصيب المؤمنين، الذين خاضوا حربا دينية ليس من اجل الهين او الهة، ولكن من اجل اله واحد. فهذه الحرب الدينية ادت لاقتناع الكاتب المتدرب او المجرب ان الدين عوضا ان يجمع الناس ويقربهم يتحول الى عامل تفرقة وانقسام، فالدين يؤدي الى عمى، ومن هنا جلس الكاتب لكتابة 'عمى'، وهي محاولة لتذكير البشر انهم عندما يتخلون عن عقولهم فسيخسرون كرامتهم التي ستهان كل يوم ممن يتمتعون بالسلطة. ثم وفي محاولة اخرى ومن اجل التطهر من شرور العمى جلس الكاتب وكتب روايته 'كل الاسماء'، عن شخص يبحث عن اخر لاعتقاده ان الحياة لا شيء فيها مهم ويستحق السؤال.

 

عمى: الفيلم

 

يذكر انه في عام 2008 قام المخرج فرناندو ميرليز بتحويل روايته عمى الى فيلم سينمائي، وكانت الحكومة البرتغالية قد احتجت على ترشيح روايته 'الانجيل حسب السيد المسيح' لجائزة الاتحاد الاوروبي الادبية. ويظل ساراماغو من اهم كتاب الرواية في القرن العشرين ومن اعظم الكتاب البرتغاليين الذين حققوا شهرة خارج حدود بلدهم، خاصة ان اهم الاعمال الروائية بهذه اللغة لم تأت من البلد الام ولكن من كتاب امريكا اللاتينية، البرازيل تحديدا، حيث بيعت اكثر من مليوني نسخة من اعماله حول العالم، فيما يباع اكثر من 150 الف نسخة من كل طبعة من رواياته في بلده وامريكا اللاتينية.

 

' ناقد من اسرة 'القدس العربي'

 

Taher-Wattar.jpg 

الطاهر وطار

 

النشأة

 

الطاهر وطار (15 أغسطس 1936 في سوق أهراس - 12 أغسطس 2010). ولد في بيئة ريفية وأسرة بربرية تنتمي إلى عرش الحراكتة الذي يتمركز في إقليم يمتدّ من باتنة غربا (حركتة المعذر) إلى خنشلة جنوبا إلى ما وراء سدراتة شمالا وتتوسّطه مدينة الحراكتة : عين البيضاء، ولد الطاهر وطار بعد أن فقدت أمه ثلاثة بطون قبله, فكان الابن المدلل للأسرة الكبيرة التي يشرف عليها الجد المتزوج بأربع نساء أنجبت كل واحدة منهن عدة رجال لهم نساء وأولاد أيضا.كان الجد أميا لكن له حضور اجتماعي قوي فهو الحاج الذي يقصده كل عابر سبيل حيث يجد المأوى والأكل, وهو كبير العرش الذي يحتكم عنده, وهو المعارض الدائم لممثلي السلطة الفرنسية, وهو الذي فتح كتابا لتعليم القرآن الكريم بالمجان, وهو الذي يوقد النار في رمضان إيذانا بحلول ساعة الإفطار, لمن لا يبلغهم صوت الحفيد المؤذن. يقول الطاهر وطار, إنه ورث عن جده الكرم والأنفة, وورث عن أبيه الزهد والقناعة والتواضع, وورث عن أمه الطموح والحساسية المرهفة, وورث عن خاله الذي بدد تركة أبيه الكبيرة في الأعراس والزهو الفن. تنقل الطاهر مع أبيه بحكم وظيفته البسيطة في عدة مناطق حتى استقر المقام بقرية مداوروش التي لم تكن تبعد عن مسقط الرأس بأكثر من 20 كلم. هناك اكتشف مجتمعا آخر غريبا في لباسه وغريبا في لسانه, وفي كل حياته, فاستغرق في التأمل وهو يتعلم أو يعلم القرآن الكريم. التحق بمدرسة جمعية العلماء التي فتحت في 1950 فكان من ضمن تلاميذها النجباء. أرسله أبوه إلى قسنطينة ليتفقه في معهد الإمام عبد الحميد بن باديس في 1952. انتبه إلى أن هناك ثقافة أخرى موازية للفقه ولعلوم الشريعة, هي الأدب, فالتهم في أقل من سنة ما وصله من كتب جبران خليل جبران ومخائيل نعيمة, وزكي مبارك وطه حسين والرافعي وألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة. يقول الطاهر وطار في هذا الصدد: الحداثة كانت قدري ولم يملها علي أحد. راسل مدارس في مصر فتعلم الصحافة والسينما, في مطلع الخمسينيات. التحق بتونس في مغامرة شخصية عام 1954 حيث درس قليلا في جامع الزيتونة. وفي 1956 انضم إلى جبهة التحرير الوطني وظل يعمل في صفوفها حتى 1984. تعرف عام 1955على أدب جديد هو أدب السرد الملحمي, فالتهم الروايات والقصص والمسرحيات العربية والعالمية المترجمة, فنشر القصص في جريدة الصباح وجريدة العمل وفي أسبوعية لواء البرلمان التونسي وأسبوعية النداء ومجلة الفكر التونسية. استهواه الفكر الماركسي فاعتنقه, وظل يخفيه عن جبهة التحرير الوطني, رغم أنه يكتب في إطاره.من 1963 إلى 1984 عمل بحزب جبهة التحرير الوطني عضوا في اللجنة الوطنية للإعلام مع شخصيات مثل محمد حربي, ثم مراقبا وطنيا حتى أحيل على المعاش وهو في سن 47. شغل منصب مدير عام للإذاعة الجزائرية عامي 91 و1902 عمل في الحياة السرية معارضا لانقلاب 1965 حتى أواخر الثمانينيات. اتخذ موقفا رافضا لإلغاء انتخابات 1992 ولإرسال آلاف الشباب إلى المحتشدات في الصحراء دون محاكمة, ويهاجم كثيرا عن موقفه هذا, وقد همش بسببه. كرس حياته للعمل الثقافي التطوعي وهو يرأس ويسير الجمعية الثقافية الجاحظية منذ 1989 وقبلها كان حول بيته إلى منتدى يلتقي فيه المثقفون كل شهر.

 

عمله في الصحافة

 

عمل في الصحافة التونسية: لواء البرلمان التونسي والنداء التي شارك في تأسيسها, وعمل في يومية الصباح، وتعلم فن الطباعة.أسس في 1962 أسبوعية الأحرار بمدينة قسنطينة وهي أول أسبوعية في الجزائر المستقلة.أسس في 1963 أسبوعية الجماهير بالجزائر العاصمة أوقفتها السلطة بدورها.في 1973 أسس أسبوعية الشعب الثقافي وهي تابعة لجريدة الشعب, أوقفتها السلطات في 1974 لأنه حاول أن يجعلها منبرا للمثقفين اليساريين.

 

المؤلفات:

 

المجموعات القصصية

 

1.دخان من قلبي- تونس 1961 الجزائر 1979و 2005

 

2.الطعنات- الجزائر 1971و2005

 

3.الشهداء يعودون هذا الأسبوع (العراق 1974 الجزائر 1984 و 2005) ترجم

 

المسرحيات

 

1.على الصفة الأخرى (مجلة الفكر تونس أواخر الخمسينات).

 

2.الهارب (مجلة الفكر تونس أواخر الخمسينيات) الجزائر 1971 و 2005.

 

الروايات

 

1.اللاز (الجزائر 1974 بيروت 82 و 83 الجزائر 1981 و 2005). ترجم

 

2. الزلزال (بيروت 1974 الجزائر 81 و 2005). ترجم

 

3.الحوات والقصر الجزائر جريدة الشعب في 1974 وعلى حساب المؤلف في 1978 القاهرة 1987 والجزائر 2005). ترجم

 

4.عرس بغل (بيروت عدة طبعات بدءا من 1983القاهرة 1988 الجزائر في 81 و2005). ترجم

 

5.العشق والموت في الزمن الحراشي (بيروت 82 و 83 الجزائر 2005).

 

6. تجربة في العشق (بيروت _89 الجزائر 89 و 2005).

 

7.رمانة (الجزائر 71 و 81 ة2005).

 

8.الشمعة والدهاليز (الجزائر 1995 و 2005 القاهرة 1995 الأردن1996 ألمانيا دار الجمل2001).

 

9.الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي (الجزائر 1999 و 2005 المغرب 1999 ألمانيا دار الجمل 2001). ترجم

 

10.الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء (الجزائر جريدة الخبر وموفم 2005 القاهرة أخبار الأدب 2005).

 

الترجمات والسيناريوهات

 

ترجمة ديوان للشاعر الفرنسي فرنسيس كومب بعنوان الربيع الأزرق

 

APPENTIS DU PRINTEMPS الجزائر 1986. وله مساهمات في عدة سيناريوهات لأفلام جزائرية

 

التحويلات

 

حولت قصة نوة من مجموعة دخان من قلبي إلى فيلم من إنتاج التلفزة الجزائرية نال عدة جوائز وحولت قصة الشهداء يعودون هذا الأسبوع إلى مسرحية نالت الجائزة الأولى في مهرجان قرطاج.كما مثلت مسرحية الهارب في كل من المغرب وتونس.

 

اللغات المترجم إليها

 

الفرنسية. الإنجليزية, الألمانية, الروسية, البلغارية، اليونانية, البرتغالية، الفيتنامية, العبرية, الأوكرانية.... الخ

 

الاهتمام الجامعي

 

تد رس أعمال الطاهر وطار في مختلف الجامعات في العالم وتعد عليها رسائل عديدة لجميع المستويات.

 

الرحلات والأسفار

 

فرنسا. ألمانيا. بلجيكا. هولاندا. سويسرة. بريطانيا. إيطاليا. بلغاريا. الاتحاد السوفياتي سابقا بمعظم جمهورياته. كوبا. الهند. أنغولا. البلدان العربية باستثناء السودان وعمان وموريتانيا وفلسطين.

 

مواضيع الطاهر وطار

 

يقول إن همه الأساسي هو الوصول إلى الحد الأقصى الذي يمكن أن تبلغه البرجوازية في التضحية بصفتها قائدة التغييرات الكبرى في العالم.ويقول إنه هو في حد ذاته التراث. وبقدر ما يحضره بابلو نيرودا يحضره المتنبي أو الشنفرى.كما يقول: أنا مشرقي لي طقوسي في كل مجالات الحياة, وأن معتقدات المؤمنين ينبغي أن تحترم.نال جائزة الشارقة لخدمة الثقافة العربية لعام 2005ويمكن التعرف عليه أكثر بزيارة موقعه

 

أبرز الكتاب العرب الذين ثبت الطاهر وطار كتاباتهم عن أدبه:

 

*    د. جابر عصفور

 

*    ذ. فايز محمود

 

*    د. محمد القاضي

 

*    ذ. عبد الأمير الحبيب

 

*    ذ. عادل أديب

 

*    ذ جروة علاوة وهبي

 

*    ذ. بكري الشيخ

 

*    الزلزال بالإنجليزية

 

*    الزلزال بالفيتنامية

 

*    الزلزال بالأوزبكستانية

 

*    ذ. عصام المحاويلي

 

*    ذ. جمال فوغالي

 

*    ذ. عبد الرحمان مجيد الربيعي

 

*    ذ. وزاني مبارك

 

*    ذ. تيسير نظمي

 

*    ذ. كرومي لحسن

 

*    د. جابر عصفور

 

*    د. حسين فيلالي

 

د. حسين فيلالي2

Tayseer1971-F.gif Tayseer Nazmi 1972-

1996-2009 Modern Novelist and short story writer,poet and critic + painter

 

قليل من الشللية والمحسوبيات كي تكون معروفاً

 

 

عمان نت – برائحة القهوة

 

أناس في الثقافة يصنعون النجوم ويهمشون، والشللية والمحسوبيات ميزة طبعت هذا العصر، وللأغنية الوطنية مكانة لا تستهينوا بها، ولمحمود درويش رسائل يوجهها للقارئ المجهول، أهلا بكم مستمعي برنامج برائحة القهوة في حلقة جديدة بعد غيبة نطل عليكم، مرة أخرى

 

عناوين حلقتنا:

 

أحمد قعبور يقول لا تستهينوا بالكلمة واللحن والثقافة

 

محمود درويش يوجه رسائل إلى قارئ مجهول

 

وفي ملف الحلقة

 

المثقفون: نجوم أو على الهامش

 

التفاصيل:

 

أحمد قعبور : لا تستهينوا بالكلمة واللحن والثقافة

 

"حرية التعبير في العالم العربي عالقة ما بين ثقافة الاستسلام أو فقدان المبادرة عبر التمسك بتراث وكأنه قرآن كريم لا يمس" هذا ما قاله الفنان اللبناني أحمد قعبور في مؤتمر حرية التعبير في العالم العربي الذي أقيم في عمان، وكان أن تساءل عن "كيف ننتج ثقافة حية بعيدا عن الكاسحة الأميركية خصوصا وأن وسائل الإعلام في عالمنا حرة ولكن فقط في رسم صورة مغايرة للحقيقة".وعرض قعبور أغنيته الشهيرة (أناديكم) أمام الحضور مشيرا إلى أن الأغنية والتي غناها وعمره 19 عاما قد سبقت عمره الفني وغير الفني، لكنها لم تعرض على الشاشات العربية سوى بعد عشرين سنة، وهو ما يدل على أزمة التعبير في تلفزيونات العرب. وقال "شركات إنتاج الفن والأغاني رفضت تجديد أناديكم وعصرنتها" مؤكدا انه لا يدعي بأنه الوكيل الحصري للأغاني الوطنية لكن "البرامج الفنية بما فيها من منوعات على الفضائيات تحولت إلى سيرك جوال تماما كما يحصل مع المهرجانات السياسية، وذلك يساعد الكاسحة الأميركية المتخصصة بسحق الثقافات، أما الأنظمة البوليسية الفارغة فقد فشلت في مواجهة إسرائيل وتحولت إلى جمهوريات خوف من كل شيء لا تنتج إلا ثقافات البلادة". واستعرض الفنان اللبناني قعبور واقع الأحداث المأساوية التي يمر بها الصحفيين في لبنان من قتل وتفجير وقال "من حقي كعربي أن أعرف من يقتلنا في عمان وبيروت والرياض؟ باسم من نقتل؟ من الذي أوصلنا إلى هذا الحد؟ القتلة يتشابهون ويتكافلون في كل مكان، فمن عمل على تربية الأفاعي في ديارنا نسي أنها عندما تكبر تبتلع مروضها، ولذلك يستمر السؤال من الذي حولنا كمواطنين عرب لكائنات مصفقة؟ نصفق للنشاز والشواذ في الفن والسياسة". واستذكر القعبور أول ضحايا الدكتاتور بينوشيه في تشيلي كان مغنيا قطع الزعيم الدكتاتور يديه وأجبره على الغناء في ملعب كرة القدم حتى مات مضرجا بدمائه، وقال "أطلب من الجميع عدم الاستهانة بالكلمة واللحن والثقافة". أحمد قعبور من مواليـد بــيروت عـام 1955 تابـع دراسـته في دار المعلمين والمعلمات في بـيروت والتحق بقسم المسرح في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية وتخـرج منها عـام 1982، ويعـمل حاليــاً في مديـرية شؤون المسرح والسينما والمعارض في وزارة الثقافة اللبنانية.قعبور الذي يعيش الآن وحدة يدرك فيها معنى الإنسان والصدق وأهمية الأغنية الوطنية في المقاومة يقول:

 

"هناك حقيقة لا يمكن تجاهلها وهي أنـّه ما من أغنية، أو ربما ما من عمل فنّي، استطاع يومـاً أن يغـيّر نظامـاً أو أن يقلب نظماً سياسية و لكن الأغنـية الوطنـية وُجِـدَت لتنـمّي و تحافظ على الحسّ الوطني لدى الشعوب، لتحرك مشاعرهم و تدفعهم للصمود. فأغنية أناديكم وغيرها من الأغاني الوطنية الأخرى كانت و لا زالت رفيقة المقاوم. كانت معه كالحجر والبندقية في مواجهة العدو".

 

المثقفون: نجوم أو على الهامش

 

قليل من الشللية والمحسوبيات كي تكون معروفاً

 

يعيش الكاتب صراعا لأجل الاستمرارية محاولا الوصول إلى أكبر عدد ممكن من القراء، ومن أجل هذا يقوم الكثير منهم في الوقت الراهن بالنتاج المستمر طيلة العام، وذلك على حساب المضمون كما يشير بعض النقاد ويصلوا إلى حد تشبيههم "بالدجاجة البياضة"، ومع هذا يقوم البعض بإنتاج قليل يقابله تحرك على كافة الجبهات الإعلامية، من خلال الترويج لأرائه إلى أن يصبح طرفا مكملا في أي مادة إعلامية تنشر على صفحات الجرائد أو الإذاعات والتلفزيون.الكاتب "نجم" في الصحف اليومية؛ فإما أن يكون أو لا يكون، وإن كان فستقرأ آراءه وتعليقاته ومساهمته في أي مادة منشورة، أو لا يكون فلا اسم له ولا يعرفه احد، فهل أصبحت الثقافة حكرا على بعض المثقفين، وهل هناك حربا تشن على أسماء بعينها لمنع انتشارها؟نمطية وازدواجية الموضوعات المنشورة على الصفحات الثقافية في الجرائد اليومية، ليست موضوعنا لهذه الحلقة، ولكن موضوعنا معرفة من هو المثقف الذي له نصيب الأسد في المواد المنشورة ومن هو البعيد عن لعبة الشللية والصداقات والمحسوبيات كما وصفها بعض المثقفون لبرنامج "برائحة القهوة". هل للمثقف آراء متميزة ومتجددة ومطاطة في الثقافة تدفعه للتواجد في كل مادة صحفية منشورة، وهل هناك كتابا فضلوا الابتعاد عن الصحافة كي "لا يستنزفوا طاقاتهم الإبداعية"، أو رفضا "لواقع مر، انعكس على الصحافة وخصوصا الثقافية منها، ليدفعهم كل هذا إلى الابتعاد والانكباب على ذاتهم"، أم أن الصحفي كسول وبدون قصدية اعتمد على رأي مثقف في مادة واستسهل الرجوع إليه، أم قرأ رأي مثقف في مقالة منشورة واتصل به لأخذ رأيه اختصارا للوقت، أم أن هناك روابط صداقة قوية تجعل ذلك الصحفي "يلمّع صديقه المثقف، كي يعطيه الفرصة للوصول إلى القارئ طالما أن إبداعه غير جاذب لهم أو بالأحرى غير مقنع للقارئ وهو الذي بطبيعته ملول وغير صابر على القراءة". "هناك أسماء ثقافية موجودة ولا تكتب للصحافة، وهي موجودة أصلا وأعدادها كبيرة".

 

فبالنسبة للكاتب رسمي أبو علي فإن العلاقات الشخصية تلعب دورا كبيرا في تميز مثقف عن الآخر، وبالتالي تضمن تواجده النشط في الصفحات الثقافية، "فالعوامل الشخصية تلعب دورا كبيرا بدون شك". مبدعون يكتبون للصحف باستمرار، معروفين للقارئ والمسؤولين عن صفحات الثقافية، ومبدعين يسألون "لماذا لا يكتبون وأين هم"، ولكن هناك من يكون "مستنكفا عن الكتابة للصحف، وبرضاه" كما يقول أبو علي، ويضيف "هناك شللية تعمل على حساب آخرين، وهي موجودة للأسف في الساحة الثقافية". هل أنت مهمش في الصحافة أم لا ؟أبو علي: لا أعتقد أنني مهمش في الصحافة، فأنا أنشر باستمرار في أكثر من صحيفة، ولست مهمشا كما آخرين.

 

ولم هناك تهميش؟يجيب أبو علي: هناك قسم يعتقد أن الكتابة للصحف تستنزف طاقاتهم الإبداعية، بينما يرى قسم آخر أنه ليس بدافع العزوف بقدر ما أنهم لا يجدون مجالا، أو أن عملية النشر مرهقة وتخضع لمعايير، ويكونوا مصدومين من أسلوب التعامل فيقطعون التواصل، وهناك فئتان؛ الأولى مستنكفة والثانية لا يعجبها الآلية التي يتم فيها النشر.التعامل غير اللائق ابعد كثير المثقفين عن الكتابة للصحف وتناول أبو علي أسماءً بعينها غائبة تماما في الصحف، ولكن موجودة وحاضرة في النشاطات الثقافية، "يحضرني مثلا الروائي إلياس فركوح، والذي اخذ قرارا بعدم الكتابة للصحف، ورغم أنه مرحب به في أكثر الجرائد الأردنية، وإن كان يكتب لمجلة تايكي الثقافية. وهناك أيضا الكاتب المعروف جمال أبو حمدان متفرغ للكتابة للمسلسلات التلفزيونية، فعمله بهذه الكتابة لا يتيح له الوقت لكي يكتب للجرائد".إضافة إلى تلك الأسباب يضيف أبو علي "هناك كتابا أبعدهم الأسلوب غير اللائق من قبل الصحف، بمعنى أنه يقدم مقالا أو قصة، ولا تنشر ويأتي بعد فترة ثم يكتشف أن مواده ضاعت وأهملت، وأذكر أن هناك القاص تيسير نظمي وهو متميز لكنه لم يجد مكانا في الصحف المحلية، لكن نشاطه على ما أعتقد على شبكة الانترنت، وهو لم يعامل بإنصاف". ويتابع "الأسماء الموجودة الآن معترف بها وحاضرة ومعروفة ولديها من المؤلفات الكثير وغالبا ما تنشر، وهناك أسماء جديدة ظهرت تنشر باستمرار وهي بالعشرات والحركة ناشطة".

 

أما القاص تيسير نظمي أحد الذين أغلقت الصحافة أبوابها بوجههم، يعلق لـ"برائحة القهوة" أن هذه الظاهرة موجودة منذ سنوات، "لأن الصفحات الثقافية في صحفنا لم تعد تقليدا راسخا منذ سنوات، فنظرة أصحاب الصحف كما هي نظرة المحررين للعمل الثقافي على أنها وظيفة فقط، ومع وجود محسوبيات أضف عليها، فالقائمون على الصفحات الثقافية غير مربوطين باستراتجيات وبكفاءات محددة، وأريد أن أذكر مثالا فقبل تسع سنوات حينما جاء الكاتب والروائي الإسرائيلي عاموس عوز في خضم اتفاقيات السلام، قابله التلفزيون الأردني على أساس أنه باحث اجتماعي وهو روائي من أخطر الروائيين الإسرائيليين، وهذا يدل على أن الصحافة الثقافية لم تكن جاهزة لأي متغيرات تطرأ على البلد، يجب أن نعرف ماذا يدور في العالم، فالمثقف أولى أن يبّصر القارئ بمن الذي يظهر على شاشة التلفزيون الأردني مثلاً".أما فيما يتعلق بالأسماء، يقول نظمي "لدينا أسماء في الأردن، معروفة عربيا وبمنتهى الإحراج نفاجأ عندما يأتونا الضيوف العرب ويسألوا عن بعض الأسماء والتي يفترض أن تكون معروفة في الأردن، يفاجئوا أنها غير معروفة، وابرز مثال على ذلك غالب هلسة، فهو أديب أردني معروف عربيا وفي الأردن غير معروف، فالتقصير من الصحافة الثقافية منذ سنوات، وإن كانت بعض الفعاليات التي أقيمت له في السنوات الأخيرة، لكن التقصير موجود". تركت الثقافة لأهلها ومدّعيها ويتحدث تيسير نظمي عن حاله، ويقول "أنا معروف عربيا لكن ليس في الأردن، فهناك جريدة وحيدة قابلتني وكان اللقاء على استحياء وتمت قصقصته. حاولت من خلال عملي في جريدة الأنباط أن أشرف على الصفحة الثقافية لكن النظرة غير الجادة للثقافة طغت، فالسياسي والمهني يطغى على كل ما هو ثقافي، وفشلت هذه التجربة وأنا تراجعت وترأست قسم الترجمة فيها؛ على أن لا أخوض في العملية الثقافية وتركت الثقافة لأهل الثقافة ولأدعياءها". الشللية موجودة في الثقافة يؤكد نظمي، وتلعب دورا كبيرا في تبادل المنافع، ذاكرا مثلا حول ذلك "في إحدى صحفنا اليومية هناك كاتب يشغل موقعا مهما في إحدى الصحف العربية اللندنية، وتتم مقابلته خلال الأسبوع مرتين أو ثلاثة عدا مقالاته المنشورة باستمرار، ما المبرر لذلك في ظل تناسي وتجاهل وتعتيم على أسماء أخرى، وهذه محسوبيات وشللية طاغية على الساحة".مستهجنا "من يومين أقاموا موسم المسرح، وهو بديلا عن مهرجان المسرح والذي كان على المستوى العربي أهمية، وكان من العار أن يحول إلى مهرجان إقليمي، فهم يستكثرون على العرب الإقامة في الأردن وكان للأسف المهرجان خال من الحضور، فالحضور ثلاثة والموضوع يناقش الإرهاب والمسرح ! ".

 

هل أنت مقصود بالتهميش؟

 

يجيب تيسير نظمي "هناك أناس يجهلوا جهدي السابق في السبعينيات، من حيث كوني كاتبا ومشرفا على الصفحات في جرائد الوطن والقبس الكويتيتين وأكثر من جريدة ومجلة كويتية، وأنا أعذرهم، ولكن هناك أناس يقصدوا ذلك؛ لاختلاف المستويات والمنابع، لكن هناك من يشرب من رأس نبع ثقافي وينظر للثقافة على أنها جادة وليست برستيجا، فالثقافة عمل جاد ومضني، وتتطلب تضحيات أيضا. وأضيف اسما في قائمة المهمشين هو وليد أبو بكر".

 

لسنا في المدينة الفاضلة، والمتلقي لن يخدع طويلاً

 

الإعلامية والكاتبة الأردنية لانا مامكغ تعترف أن هناك ما يسمى شللية في الوسط الثقافي، لكنها بعيدة عن كل هذا ولا تعتبر نفسها مهمشة بذات الوقت وتقول "قد يكون التهميش وارد أحيانا، عندما يجد المثقف نفسه خارج شلة معينة أو خارج محسوبيات معينة، لكن بالنسبة لي فإحساس التهميش لم يراودني أبدا مع أني غير محسوبة على أي شلة، كما أني لست نشيطة في العلاقات الشخصية ولا العلاقات العامة حتى، وأنا ضد تعبير التهميش أصلا لكن هناك أناس لديهم عقدة الاضطهاد ويحبون الشعور بالتهميش ليس فقط في مجال الثقافة بل في أي مجال". هذه الأسماء لن تبقى ولن تستمر لأنها لا تقدم الأصلح للثقافة، هذا ما تشير إليه الدكتورة لانا قائلة "لابد أن نعول على ذكاء المتلقي، فهو قد يخدع لبعض الوقت لكن ليس طوال الوقت، فالأصل في الأشياء أن البقاء للأصلح، وهذه الفقاعات التي تبدو على السطح أحيانا تلمع وتتألق وتحلق لكنها تنطفئ سريعا، بدليل أن لدينا مبدعين غير معروفين في الأردن لكنهم معروفين في الوطن العربي كله"."نحن لسنا في المدينة الفاضلة" تعلق مامكغ وتقول "هذه الظاهرة موجودة في الأردن وغيرها وفي كل الوطن العربي، فدائما هناك شبكات تسعى لأن تبرز أسماء على حساب أسماء أخرى". وكمية النشر لا تدل بالضرورة على مقدار إبداع الأديب، تتابع لانا "الأدب كأي مهنة أخرى تحتاج إلى الصبر حتى يثبت الإنسان وجوده، فمشكلتنا أحيانا أن من يصدر كتابا يعتبر نفسه أديبا أو يصدر ديوان شعر يتيم يصبح شاعرا وهذا ليس بكاف، فعدد الكتب المنشورة لا يعني أن هذا الإنسان أديبا، وفي أحيان أخرى يقول أنا أصدرت 10 كتب ولم أجد فرصتي، هذا ليس ما يهمنا، ما يهم هو النوع وليس الكم".

 

محمود درويش يوجه رسائل إلى قارئ مجهول

 

تربطه بالقارئ المجهول علاقة قوية غريبة، ويقول في كلمته الموجهة للحضور المتجمهر في مسرح البلد، "كيف أتعلم كتابة الشعر في هذا الهزيع من العمر؟"، أنه الشاعر الكبير محمود درويش، والذي أضاء وسط البلد يوم الخميس الماضي.فطابور الجمهور المنتظر دوره في توقيع نسخته من ديوانه الأخير "كزهر اللوز أو أبعد"، أنقسم إلى طوابير عديدة تدافعوا فيها لأجل سرقة نظرة لمحمود وهو يمازح هذه المرأة أو ذاك الشاب حين يوقع له نسخته، فدرويش عاد إلى عمان مرة أخرى ليس إلى بيته الكائن في عبدون إنما إلى مسرح البلد للقاء محبيه وعشاقه من الأردنيين.وقال درويش في مستهل كلمته "الشكر للأصدقاء والشعراء في هذا البلد العزيز الأمين، الذي نتمنى له الطمأنينة والخير والازدهار، أما التحية الخاصة فهي موجهة إلى القارئ المجهول، الذي تربطني به علاقة سرية، لا مجاملة فيها، ومعاهدة أدبية، لا وصية عليها غير الثقة المتبادلة، والمشاركة الطوعية، في حركة النص الشعري، في اتجاهين؛ من الذات الكاتبة إلى الذات القارئة، التي تمنح النص حياته الثانية حين تعود كتابته المجازية بطريقته الخاصة، حينما وجدت فيه صوتها صورتها".القارئ ناقدي الأولوتابع.."إذ لا حياة حقيقية في القصيدة حين يتحرك القارئ في اتجاهها ودون تحركها في اتجاه القارئ، فالذات الكاتبة، ليست ذاتية إلا في الظاهر، إنها طرف في عملية مركبة، يشكل المتلقي أو القارئ طرفا حيويا في تحققها، من هنا أجد في نفسي القدرة على البوح، لأنني بعيد إلى حد ما عن ساحة الشكوى العامة، من خطر القطيعة الذي يهدد العلاقة بين الشاعر والقارئ، فالقارئ أعني قارئ الشعر المتمرس الموهوب، فهو ليس كتلة جامدة بل حيوية متجددة ومتعددة هو الذي يشجعني على تطوير أدواتي وأساليبي بقبوله اقتراحاتي الشعرية المتغيرة، وهو القارئ المتمرس الموهوب بصفته ناقدي الأول من يساعدني على تطوير الأفق الإنساني لوطن قصيدتي فيحرضني على أن نثري معا إلى إيقاع الزمن وعلى عدم التحجر في طريقة تعبير نمطية، نهائية الدلالة إذ لا شكوى نهائيا للشعر فهو مفتوح على فضاء غير محدود (...) ". "لا يملك احد منا تعريفا كاملا أو ناضجا للشعر.. هذا الكلام الخارج عن العادي والمألوف، الباحث عن التعرف على نفسه فيما لا يعرف مما سبق. لكنه يدفعنا إلى القول: هذا شعر أو هذا كلام يشبه الشعر. فهو دائما جديد مفاجئ يأتي من اللامتوقع. واللامنتظر. لا يكتمل إلا لينتقص.. ولا كمال له إلا في وعي النقصان.. لذلك هو صعب وممكن.. لان الحياة على هذه الأرض صعبة وممكنة، ولأن المجهول هو جار الحلم"."لا علاقة بين قولي هذا وكتابي هذا، فبين ما نريد أن نكتب وبين ما نكتب فجوة لا نجتازها إلا بإعادة التجربة، وبين صورة الشاعر عن نفسه وصورته في مرآة الناس مسافات لا يختصرها الشاعر إلا بتطوير أدوات النقد الذاتي، وبالتمرد الدائم على نتاجه، فإن تضخيم الذات بالنرجس ليس هو الدفاع السليم عن طبيعة الشعر المنفتحة على العالم"."أن نكتب كأننا نكتب للمرة الأولى، وان ندرك أن أوراقنا البيضاء ليست بيضاء، بل ملأى بآلاف النصوص السابقة، وان في داخل كل شاعر خارجا مزدحما بالناس والأشياء، وان الذات الفردية فردية وجماعية في آن واحد، هي إحدى المخاوف الضرورية لكتابة قصيدة جديدة"."لن أتحدث عن كتابي، لأني لا اغبط الشعراء الذين يمتلكون الفصاحة الكاملة حين يتحدثون عن شعرهم، ويعانون كامل الركاكة حين يتحدثون عن غيرهم، ولأنني لن اعرفه من فرط ما استقل عني. ولكنني سأسأل نفسي: كيف أتعلم كتابة الشعر في هذا الهزيع من العمر؟.وسيوقع درويش ديوانه الأخير بعد عمان، في بيروت وذلك ضمن معرض بيروت الدولي للكتاب خلال الشهر الجاري، بعدما وقعه قبل أسابيع في كل من سوريا ورام الله. وقرأ درويش بعد إلحاح الجمهور قصيدة "فكر بغيرك" وفيها وقف الحضور مصفقا له لأكثر من دقائق، ومنها قرأ:

 

 وأنت تعد فطورك، فكر بغيرك..لا تنس قوت الحمام

 

وأنت تخوض حروبك ، فكر بغيرك..لا تنس من يطلبون السلام

 

وأنت تسدد فاتورة الماء، فكر بغيرك..من يرضعون الغمام

 

وأنت تعود إلى البيت، بيتك، فكر بغيرك..لا تنس شعب الخيام

 

وأنت تنام وتحصي الكواكب، فكر بغيرك..ثمة من لم يجد حيزا للمنام

 

وأنت تحرر نفسك بالاستعارات ، فكر بغيرك..من فقدوا حقهم في الكلام

 

وأنت تفكر بالآخرين البعيدين، فكر بنفسك..قل: ليتني شمعة في الظلام

 

وتحفل سيرته الشعرية ب(22) كتابا من المجاميع الشهرية إضافة لديوان الأعمال الأول في ثلاثة أجزاء صدرت عن «رياض الريس للكتب والنشر» كما صدرت من ذات الدار «الأعمال الجديدة» ولا تعتذر عما فعلت، «لماذا تركت الحصان وحيدا، «سرير الغريبة» ، «جدارية»، «حالة حصار» ، و«كزهر اللوز أو ابعد» الذي لاقت فيه الذات الإنسانية وهمومها وقلقها وتوقها للاهلين والحياة والحب التي امتدت على 202 صفحة توزعتها 34 قصيدة موزعة ثمانية أبواب أولها: أنت ، هو ، هي، أنا ، هي وأضفى 1، 2، 3، 4 وجاءت منفى (4) بعنوان «طباق» وهي القصيدة المهداة إلى ادوارد سعيد.كما صدر للشاعر عن عدة دور نشر 16 ديوانا هي «أوراق الزيتون» عاشق من فلسطين، «آخر الليل»، «حبيبتي تنهض من نومها»، «العصافير تموت في الجليل»، «أحبك» ، أو لا احبك، «محاولة رقم 7» ، تلك صورتها ، وهذا انتحار العاشق ، «أعراس» ، مديح الظل العالي، «حصار لمدائح البحر»، هي أغنية هي أغنية ، «ورد اقل» ، «مأساة النرجس» ، ملهاة الفضة ، «أرى ما أريد» و«احد عشر كوكبا».

 

 

 

Elsa Osorio di Luigia Sorrentino

 

Intervista a Orhan Pamuk di Luigia Sorrentino

Emil-Habibi.jpg

إميل حبيبي .. الضحك فلسفةً للمقاومة وسبيلاً لتجاوز الراهن والمعيش

 

رغم حلكة الظروف التي نشأ وترعرع في أجوائها إلا أن الروائي الفلسطيني إميل حبيبي ، الذي يصادف اليوم ذكرى مرور 14 عاماً على وفاته ، استطاع أن يسلك في سبل الرواية العربية مسلكاَ مغايراً للمتداول والسائد حيث ذهب باتجاه استلهام الموروث إلى جانب جرأة في التعامل مع اللغة ، كما كان يلجأ ـ عادة ـ إلى استخدام الرمز والكناية والإشارة من بعيد نتيجة للظروف ذاتها. وعلى خلفية ميوله السياسية اليسارية تأثر بالأدباء الروس ، كما تأثر بالمقامات التي علمته التلاعب بالألفاظ ، وقد شكل حبيبي نموذجاً لمعاناة المثقف السياسي.استطاع حبيبي أن يجعل من الضحك فلسفة مقاومة ، ومن (النكتـة) منشوراً سرّياً يتداوله الأطفال ـ قبل الكبار ـ وتلك مهمّة شاقة لن يستطيع القيام بها إلا أديب ذو أصالة ذاتية وموضوعية ، وذو عبقرية متميزة في اصطياد الفرح من غابات الحزن المظلمة التي يتيه فيها الإنسان العربي بعامة ، والإنسان الفلسطيني بخاصة. يمتاز عطاؤه الأدبيّ في ترسيخه أسلوباً جديداً في الأدب الفلسطيني هو الأسلوب الساخر. وتعدُّ هذه السخرية الروح المهيمنة على نسيج رواياته ـ مند بدايتها إلى نهاياتها ـ تنبثق فيها المفارقات المتعددة المتنوعة: إذ تتكور لديه الفكاهة بالسخرية في أسلوب كوميدي يُحْدًث انقلاباً في الدلالة ، فتغدو رواياته مرصّعة بسخرية مشعة تقفز في حريةْ وانطلاقْ يوحي ـ للوهلة الأولى ـ بعبثيتها وعشوائيتها ، لكنها سرعان ما تكشف عن اتزانها وارتباطها بالموقف الروائي العام ارتباطاً وثيقاً.ولا يستخدم حبيبي السخرية من باب النقد والتقويم فقط ، بل بوصفها قناعاً يحتمي به من وطأة التجربة المعاصرة التي حاقت بشعبه ، ليقاوم آلامها وفواجعها. كان صوتاً متفرداً في استخدام الأساليب الهزلية الساخرة في الرواية العربية المعاصرة. ولد حبيبي في حيفا عام 1921 ، وأتمّ دراسته الثانوية فيها وفي عكا ، واشتغل عامل بناء زمناً ، ثم انتقل للعمل مذيعاً لدى إذاعة القدس ، واستقال منها ليعمل موظفاً في معسكرات جيش الانتداب ، ثم محرراً في جريدة (الاتحاد). أصدر مجلة (المهماز) في حيفا عام 1946 ، وناضل ضد الانتداب البريطاني ، ثم ضد ممارسات إسرائيل بعد قيامها. واختاره المواطنون العرب ضمن من يمثلونهم في (الكنيست) ، وبقي عضواً فيه حتى عام 1972 حين قدم استقالته ليتفرغ للكتابة. وفي عام 1990 ، أهدته منظمة التحرير الفلسطينية (وسام القدس) ، وهو أرفع وسام فلسطيني. وفي عام 1992 منحته إسرائيل (جائزة الإبداع) ، فارتفعت أصوات تطالبه برفضها ، لكنه قبل الجائزة ، ثم أعلن تبرعه بقيمتها المادية لجمعية (المقاصد الإسلامية) التي تتولى علاج جرحى الانتفاضة. وفي العام الأخير من حياته ، انشغل في إصدار مجلة أدبية أسماها (مشارف). رحل في الثاني من أيار عام 1996 ، وأوصى أن تُكتب على قبره هذه الكلمات: (باقْ في حيفا). نشر حبيبي عمله الأول (سداسية الأيام الستة) عام 1968 ، ومن بعد هذا العمل ظهرت له الأعمال: (الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل) ، 1974, (لكع بن لكع) ، رواية مسرحية ، 1980 ، ثم (اخطية) 1985 ، وأخيراً (خرافية سرايا بنت الغول) 1991 . تلك الأعمال القليلة جعلت صاحبها أحد أهم المبدعين العرب. ولفهم أعمال الراحل يجب أن الأخذ بالاعتبار أنه يكتب من داخل الزنزانة الإسرائيلية ، وهو ، من ثَمّ ، يفتقد القدر الكافي من الحرية ليقول ـ مباشرة ـ ما يريد ، وكان عليه أن يلجأ إلى الرمز والكناية والإيماءة والإشارة من بعيد. في روايته الفذة (المتشائل) ، لم يسلك إميل أيّا من السبل المطروقة في الرواية العربية أو العالمية ، بل أسَّس إبداعاً جديداً يقوم على استلهام التراث الفلسطيني والعربي ، وحُسن استخدام اللغة والجرأة في التعامل معها ، والاستعانة بالأمثال والحكايات ، ثم اللجوء إلى السخرية أو الفكاهة السوداء. كان جوهر تلك الرواية هو وصول بطلها (سعيد) إلى حتمية صيغة الفداء والمقاومة المسلحة. هو في (الكتاب الأول) باحث عن (التكيف) ، ملتمس للأمن والأمان ، مستعدّ لتقديم كل التنازلات التي تطلبها منه الدولة العنصرية الباطشة. ثم يقف ـ في نهاية (الكتاب الثاني) ـ ممزقاً بازدواجيته ، وحمل ابنه السلاح ضد الدولة ولاذ بكهف بعيد. وفي (الكتاب الثالث) ، ينتهي الأمر بسعيد إلى الجلوس على قمة العمود ، يرفض النزول عنه. صحيح أنه تغير ، وأيقن أن تنازلاته كلها لم تُجْدًه شيئاً ، لكنه عاجز عن النزول إلى الناس والمشاركة في نضالهم. ولا يجد أمامه سوى الاستنجاد بالكائن الفضائي الذي يستجيب له ، فيحمله إلى حيث أَلْقت: الجنون أو الموت. وتكون كلمة (يُعاد الثانية) خير ما يقال في وداع (أبي النحس): لقد استراح وأراح،

 

التاريخ : 02-05-2010

 

kafka-franz.jpg 

محاولة تكميلية لمساهمة حمزة الحسن: الصورة النمطية الزائفة لفرانتس كافكا والقراءات اللاتاريخية لرسائله الشخصية

 

 

علاء اللامي

 

 

01/01/2010

 

 

 

 

'سوف تشعرين بنفسك يوما في أن تكوني صهيونية وسوف تتأكدين فيما بعد أنني لستُ صهيونيا وسوف يتضح هذا من خلال التجربة أو الفحص وذلك لا يقلقني وأريد ان لا يقلقك، فالصهيونية ليست شيئا ما يفرق أصحاب القلوب الطيبة / من رسالة كافكا إلى خطيبته فيليس باور في 12 أيلول (سبتمبر) 1916'.

 

 

منذ عقدين تقريبا، بدأت الصورة النمطية والبالغة السلبية للروائي التشيكي الشهير فرانتس كافكا بوصفه، بحسب تلك الصورة، كاتبا وإنسانا كابوسيا وسوداويا، متشائما ومضطربا، عصابيا وعدوانيا إلى درجة مرضية، بالاهتزاز والتفكك فالتلاشي رويداً رويدا. حدث ذلك تحت وطأة كتابات نقدية إيجابية مضادة، كان من بين أهم المبادرين إليها الروائي التشيكي ومواطنه ميلان كونديرا، غير أن هذا الحدث الثقافي الملهم ظل بعيدا عن التأثير والفعل في الساحة الثقافية العربية السريعة التأثر عادةً بما يرد من الحواضر الأوروبية من غث وسمين بفعل آليات التبعية 'الحضارية والثقافية' الشاملة. وهكذا بقيت صورة 'كافكا الظلامي' و'أدبه الجحيمي 'كما هي منذ سنين طويلة، بل وفاقم من سوئها لدينا نحن العرب خصوصياتٌ وثيماتٌ 'ثقافية عربية ' أخرى، من بينها غياب أية تقاليد في التضامن الإنساني البديهي والخارج عن الغرض بين المثقفين عموما والمبدعين منهم خصوصا، وهيمنة القراءات السطحية اللاتاريخية وغير المتفحصة لكل ما هو قادم من أقلام الأورومركزية الغربية التي فارق أغلبها التراث والجذور التنويرية الرشدية والتصق بعنصرية أدولف هتلر ومارغريت ثاتشر. مضاف إلى هذا، وذاك سيادة نمط ايديولوجي من النقد الأدبي وغير الأدبي، الذي لا يرى أبعد من أرنبة أنفه، وأخيرا فثمة تأثر هذه الساحة الشديد بإفرازات الصراع العربي الصهيوني مما أعطى ثقلا ورنينا خاصين للمزاعم التي تذهب إلى أن كافكا كان مؤيدا للحركة الصهيونية إن لم يكن صهيونيا متعصبا، الأمر الذي أظهرت الدراسات السردية والوثائق والشهادات اللاحقة زيفه وتفاهته كما سنرى. وقد انتشرت هذه القناعة الفاسدة للأسف لدى أفراد النخب في بلداننا العربية مع أن شعوبنا هي الضحية الأولى لهذه الحركة العنصرية الرجعية، ورغم أن هذه المزاعم كما سيتضح هي من حيث الجوهر والفعل والمصدر صهيونية بحتة يقف خلفها صهيوني متعصب هو الكاتب التشيكي والإسرائيلي لاحقا ماكس برود، الذي جعلته مجموعة من الظروف والمصادفات الوصي وشبه الوريث الوحيد لكافكا.

 

 

إن هذه الدراسة هي محاولة تكميلية لتوسيع ما بدأ به الصديق الناقد والروائي العراقي حمزة الحسن في مقالته القيمة التي نشرت قبل فترة، وعلى هذا فمساهمتي هذه مدينة بالكثير لملاحظاته ورؤاه وآمل ان تزيل ولو قليلا مما أحاط وخصوصا عربيا - باسم وسمعة وتراث هذا الروائي العظيم فتنصفه بعد ظلم وتعيد له ألقه الإنساني الممزوج بالعبقرية والنبل.

 

 

إن أهمية العودة إلى هذا الموضوع لا تنبع فقط من الأهمية الفائقة لروائي رائد تأسيسي مبدع بقامة كافكا في ميدان الرواية والسرديات الحديثة فحسب، بل وأيضا من جملة عوامل لعل من أبرزها كما قلنا قبل هنيهة الخصوصية الفائقة لموضوعة اتهام كافكا بالصهيونية وترسخ هذا الاتهام كنوع من البديهية في أذهان عدد من الأسماء - بعضها مهم فعلا - في النخبة العربية، غير أننا لن نَقْصُرَ كلامنا على هذا المفصل، مع إننا سنعطيه حقه لمعرفتنا بأنه يشكل عماد النظرة السائدة عندنا والمتأثرة بالشأن السياسي شديد المباشرة، ولكننا سنتوقف عند كافكا الآخر، كافكا الذي دفنه أو حاول دفنه ماكس برود تحت ركام افتراءاته وأكاذيبه وتلفيقاته، لا لشيء إلا ليجعل منه صهيونيا متعصبا مثله. سنحاول إذاً مقاربة كافكا في شرطه التاريخي والأدبي لنتلمس قسمات كافكا الأديب الإنساني المناقض بطبعه وبطبيعة منجزه السردي المناهض في العمق للقمع والتغريب وانعدام التسامح و انتشار الكراهية و لكل ما ألصق به هو شخصيا من صفات وطباع ونعوت. لكي نرى، أو نقترب من أن نرى كافكا الحقيقي، كافكا الرقيق، العاشق، الخجول، الحساس النباتي، الفرح، الدمث، المعاني والصابر في مواجهة مرض خبيث راح ينخر جسده يوما بعد يوم، هو السل الرئوي، عهدَ لم يكن له أي دواء فعال، ويغرقه في نوبات رهيبة من الصداع لدرجة أنه كان يمرغ رأسه في أعشاب الحديقة من شدة الألم كما يقول في إحدى رسائله، وحتى موته المبكر والفاجع والسابق لولادته الأدبية الحقيقية بعدة سنين.

 

 

سنحاول أن ننتهي من المفصل الأول من هذه البسطة والخاص بعلاقة كافكا بالحركة الصهيونية، مؤكدين أننا لا نريد الغرق في متاهة بوليسية لنفي أو تأكيد هذا التفصيل أو ذاك، بل سنحاول إلقاء ضوء غامر على الموضوع، ولكن من داخل ومن خلال الشرط التاريخي له، بمعنى إننا لن نعقد جلسات تحقيق وتحليل لاتخاذ موقف من هذه الحيثية الصغيرة أو تلك، لأننا ننظر إلى هذه الرسائل كلها، وما رواه الآخرون شفاها، كحيثية صغيرة ليست لها دلالات خاصة إلا بمقدار ما استعملها الآخرون للتدليل على ما لا دليل عليه، ولأننا نؤمن بان من يريد ان يعرف كافكا على حقيقته سيجده يقينا في فنه الروائي وفي المنظومة الجمالية ولوحات الإبداع السردي الذي خلفه وراءه كجبل من الذهب في ضباب مهيب.

 

 

ولإعطاء نكهة تاريخية حقيقية لمقاربتنا سنتوقف عند كتاب اعتبره البعض مهما ويحوي مجموعة من رسائل كافكا ويحمل عنوانا معبرا وذا دلالات سياسية ودعائية لا تخفى ولا يمكن وصفها بالمحايدة، هو 'فلسطين في رسائل كافكا' صدر عن دار 'النمير' وترجمه إلى العربية محمد أبو خضور ترجمة لا تخلو من الارتباك والضعف في الصياغات اللغوية، كما في المثال الذي صدرنا به هذه الدراسة.

 

 

في تلك الفترة التاريخية بالضبط، أي خلال العقد الثاني من القرن العشرين، كانت الحركة الصهيونية في أوج حراكها وقوتها، وقد كسبت إلى جانبها العديد من المثقفين والأغنياء ورجال الطبقة الوسطى من اليهود الأوروبيين غير المندمجين أو غير الداعين أو الراغبين في الاندماج في المجتمعات الأوروبية على طريقة الفيلسوف الثوري كارل ماركسن الذي قال (لا خلاص لليهودي الفرد إلا بخروجه من شرطه اليهودي والاندماج في مجتمعه). وفي هذه الفترة بالضبط يلتقي كافكا الشاب وغير المعروف بين صفوف النخبة المثقفة التشيكية بالشابة فيليس باور في منزل والد صديقه ماكس برود لقاء عابرا، يعرف من خلاله أنها ذات ميول صهيونية، وانها تروم السفر إلى فلسطين، ثم تختفي من حياته، ولكنه يتابع البحث عنها، ثم يجد عنوانا لها، ويكتب لها أول رسالة لا تخلو من الانفعال والتأثر العاطفيين والخاليين من أي غرض خارج نطاق العلاقة العاطفية الجارفة بين الشابين، وهنا أيضا، ورغم رماد ماكس برود التشويهي تلتمع صورة الفتى العاشق المحب للحياة، الذي يصف حبيبته بالكلمات التالية (إنها فتاة سعيدة تمور بالعافية والثقة بالنفس)، وعن حبه لها يكتب في مذكراته العبارة المدهشة التالية ( فكرت كثيرا بالآنسة فيليس باور..يا إلهي أيه ارتعاشات أحس بها). وإذا ما علمنا أن أي ذكر للصهيونية أو لأصل كافكا اليهودي لم يرد في كتاباته أو رسائل قبل هذه الواقعة فسنفهم بسهولة الخلفية الحقيقية والأساسية لجميع الرسائل التي جمعت في هذا الكتاب، وخضعت بالتأكيد لماكنة ماكس برود وغيره من المحرضين الصهاينة بهدف توظيفها لخدمة أغراضهم.

 

 

إن القارئ لمجموعة الرسائل التي ترجمها أبو خضور يمكن أن يقع تحت إغواء القراءة 'التحقيقية'، التي لا تخلو من الوهم التالي وهو إنها لا تبحث عن الحقيقة بل عما تعتقد أنه الحقيقة أي عن صورة مسبقة وشخصية تحاول إثباتها عبر القراءة غير المحايدة والتصنيف والرصف بموجب نوايا مسبقة. هذه الحالة أو الطريقة في القراءة - كما سيتأكد لنا - قاصرة تماما، وغير متوازنة، بل هي تؤدي إلى نتائج عكسية تماما فتهدر السياق التاريخي والواقعي للشخص المقروء ونتاجه، بل وتسقط من دون إعطاء تفسير- أمورا ونصوصا جوهرية أو إنها تضيف إليها هوامش ومتعلقات بعيدة عنها تحت وطأة الحمية التحقيقية، كما حدث مع المترجم أبو خضور الذي راح يطمر كافكا تحت العديد من الممارسات والصفات والأحداث التي يعتقد بأنها ستزيد من إدانته. من هذا القبيل يشير المترجم إلى افتراق كافكا عن خطيبته أو صديقته فيليس باور وارتباطه بعلاقة بالآنسة غريت بلوخ، كما يشير إلى علاقة بالممرضة التي كانت تشرف على علاجه، في أيامه الأخيرة، أو بأنه كان 'يقترف الكذب/ بعبارة المترجم' في تعامله مع خطيبته، وقد اعترف كافكا ذاته في إحدى رسائله إلى الآنسة باور بأنه كذب عليها ذات مرة حين سألته إن كان مخلصا لها، فالأمر إذن لا يتعلق بقضية كبرى وحكم قضائي صدر من المحاكم على كافكا بالكذب، بل بدعابة اعترف هو نفسه بها في بطاقة بريدية لخطيبته. وهكذا تتحول الدعابة بين حبيبين، أو العاطفة الحميمية بين رجل مريض مرضا خطيرا وممرضته إلى أدلة جرمية ضده!

 

 

غير أن هذا كله يظل في خانة التفاصيل التي لا تقدم أو تؤخر كثيرا مع إنها تعطينا صورة عن طريقة تفكير البعض في نخبنا الثقافية العربية، ولكن الأمر الأكثر مدعاة للتأمل العميق والرفض كممارسة نقدية معا هو في إهدار أو تجاهل حكم معياري من الدرجة الأولى يقوله المتهم نفسه، وينفي عن نفسه تهمة الصهيونية كما في نص قصير ومهم لكافكا، جعلناه مقدمة مفتاحية لدراستنا هذه، ورد في إحدى رسائله، ولم يتوقف عنده لا المترجم ولا المقدم للترجمة العربية حسن حميد ولا المقدم للنص الأصلي الألماني إلى الفرنسية للرسائل إلياس كانتيني.

 

 

ومع أن الأستاذ حميد يقول بأنه لم يترك نصا أو ورقة لكافكا أو عنه إلا وقرأها، ولكنه لم يتوقف قط عند هذا النفي القاطع بلسان كافكا نفسه لكونه صهيونيا، ولا لكونه لا يقلق بسبب ذلك، بل ينتهي إلى نتائج معاكسة يجملها في أن كافكا كان: مهتما جدا بالبيوت اليهودية وانه حضر المؤتمرات الصهيونية وكان مثالا في هذا المجال (الرسائل تحدثت عن حضوره مؤتمرا واحدا وكان حضورا سلبيا تماما وشعر بأنه لا يستطيع تحمل المؤتمر ولا من حضره)، وانه تحمس لحماسة الشباب اليهود الذين انخرطوا في عمل البيوت اليهودية، التي يصفها حميد بأنها 'كانت مخفية وراء عنوان المعونات الإنسانية'، بل إن كافكا شجع صديقته - التي يذكرنا حميد بأنها ستصبح زوجته مستقبلا - على العمل في أحد هذه البيوت في فينَّا/ ص23).. التساؤل المؤرق هنا هو لماذا أغفل الأستاذ حسن حميد أهم رسالة من رسائل كافكا وتوقف عند رسائل أخرى ليست بتلك الأهمية، ومثله فعل المترجم محمد أبو خضور ومقدم الكتاب باللغة المترجم عنها إلياس كانتيني؟

 

 

سنقدم الآن عرضا مكثفا للرسائل التي ورد فيها ذكر فلسطين أو الحركة الصهيونية في محاولة لوضع هذه الرسائل في سياق تاريخي أكثر اقترابا من الواقع، علما بان هناك رسائل كثيرة لا يرد فيها ذكر هذين الموضوعين مع أن هذه الرسائل جميعها من وجهة نظرنا وسواء ورد فيها أو لم يرد ذكر هذين العنوانين ليستا بالأهمية التي نظر إليها.. ونسجل أيضا أن الرسائل الشخصية، وخصوصا تلك التي لم يرسلها كاتبها تظل ضمن دائرة الأمور الشخصية الحميمة، التي ينبغي احترامها أو على الأقل احترام رغبة مَن كتبها ولم يرسلها لسبب ما فبقيت بالتالي ملكا لكاتبها وهذا أمر لم يفعله ماكس برود الذي فعل بصديقه الأفاعيل بعد موته ومسخه مسخا تاما، خدمة لأغراضه السياسية المتعصبة.

 

 

أدناه عرض سريع لرسائل كافكا إلى خطيبته فيليس باور قبل انفصالهما عن بعض، التي ورد فيها ذكر فلسطين أو الصهيونية وسنهمل الكثير من الرسائل والبطاقات البريدية وهي كثيرة التي لم يرد فيها ذكرهما:

 

 

بتاريخ 20 أيلول (سبتمبر) 1912: رسالة طويلة /يعرف كافكا بنفسه للمرسل إليها لأنه يرجح انها لا تتذكره، ولذلك يحاول تذكيرها به، وبأول لقاء لهما بحضور آخرين، ثم يذكرها بوعدها بمساعدته ومرافقته في رحلة إلى فلسطين وينصحها بأن يستفيدا من كل دقيقة من عطلتهما، وهي كما يقول قصيرة جدا بكل المعايير من أجل تلك الرحلة.

 

 

رسالة أخرى متوسطة الطول في 28 أيلول (سبتمبر) 1912 ليس فيها إلا سؤال عرضي واحد قال فيه مستدركا أو مُذَكِّرا.. ولكن آه، ماذا حصل بالنسبة للسفر إلى فلسطين؟ أفي المستقبل القريب أم في المدى البعيد؟ خلال الربيع القادم أم في الخريف ربما ؟

 

 

رسالة مؤرخة في 2 أيلول (سبتمبر) 1913 متوسطة الطول كتبها بعد نوبة قوية من الصداع جعلته، كما قال في الرسالة، يمرغ رأسه في عشب الحديقة، في هذه الرسالة يكتب كافكا 'بأنه سيسافر إلى فيينا يوم السبت وسيبقى هناك إلى السبت الذي يليه.. وفي الهامش يخبرنا إلياس كانتيني مقدم الرسائل بأن كافكا لم يخبر فيليس المرسل إليها بأنه سيسافر إلى فيينا لحضور الاجتماع الحادي عشر للمؤتمر الصهيوني ويصف تصرف كافكا هذا بأنه 'بعيد عن اللياقة' ثم يعود كانتيني ليقدم شهادة مهمة جدا مفادها أن كافكا كان سلبيا خلال المؤتمر الصهيوني الذي حضره، حيث وصف الأيام التي قضاها هناك بأنها أيام عصيبة، وبأن المؤتمر والناس المشاركين فيه لم يكونوا محتملين بالنسبة له، فأهملهم وحاول التسلي بكتابة بعض يومياته، ثم ترك كل شيء وسافر إلى مدينة البندقية.

 

 

بطاقة بريدية قصيرة بتاريخ 9 أيلول (سبتمبر) 1913 من فيينا يخبرها فيها أنه ذهب إلى المؤتمر الصهيوني بعكس ما قال كانتيني من انه أخفى ذلك عنها وقال لها أيضا أنه لم يكن له احتكاك مباشر بالمؤتمر.

 

 

رسالته المؤرخة في 12 تشرين الأول (أكتوبر) 1912 والطويلة نسبيا لا نعثر إلا على جملة واحدة يرد فيها ذكر فلسطين بعد كلام طويل عن أشواقه للقاء حبيبته ولهفته إلى وصول جواب منها وهذه العبارة هي (هل يمكن لرسالتي ان تظل محجوبة عنك بسبب سفرك الوشيك إلى فلسطين؟) ويمكن لنا أن نفهم من هذه الكلمات ان الآنسة باور ربما تكون قد قررت أخيرا السفر إلى فلسطين بمفردها.

 

 

وفي رسالة أخرى لها مؤرخة في 27 تشرين الأول (اكتوبر) 1912 وهي طويلة وتقع في ثلاث صفحات ونصف الصفحة، نقرأ شيئا له علاقة بيومياته وبمعلوماته عنها، وهو حين يكتب لها انه علم بأنها تعلمت اللغة العبرية في طفولتها، وانه كان يفضل لو انها لم تشر إلى ذلك، بل وهو لا يخفي سروره حين فشلت ذات مرة في ترجمة كلمة 'تل أبيب' ويخبرها أيضا بأنه لاحظ انها كانت تود التأكيد على انها صهيونية وهذا يناسبه كثيرا.. ثم ترد جملة أخرى ورد فيها ذكر فلسطين وتقول (نوقشت الرحلة إلى فلسطين وآنذاك رغبت في مصافحة يدي، إنني ما أزال أتذكر بدقة الطريقة التي اعتمرت قبعتك بها، كانت القبعة عريضة تقريبا وبيضاء اللون...) نقرأ أيضا أن الطقس الماطر حرمه ذلك اليوم من القيام بنزهته اليومية في الطبيعة.

 

 

رسالة قصيرة ذات تاريخين تخمينيين خارج الصدد.

 

 

رسالة قصيرة مؤرخة من 17- 18 شباط (فبراير) 1913 خارج الصدد يخبرها أنه غير قادر على قطع الحبل الذي يربط بينهما لأنها صارت جزءا منه..الخ

 

 

وفي رسالة طويلة مؤرخة في 27 / 28 شباط (فبراير) 1913 يروي كافكا للمرسل إليها انه قابل طالبا من معارفه وكان (صهيونيا شديد الإحساس حاد الذكاء ونشيطا وأنيسا) وانه وجده (مضطربا، أوقفني ودعاني إلى اجتماع مهم ومسائي وفي تلك اللحظة كانت لا مبالاتي نحوه كشخص أو لأي شكل من أشكال الصهيونية هائلة ولم يكن بإمكاني العثور على طريقة اجتماعية معقولة لأقول له وداعا..) يبدو كافكا واضح السلبية من الصهيونية، حتى أنه ترك الرجل من دون وداع، وحتى هنا لا يمكننا، ولا يمكن لغيرنا توظيف هذه الرسائل بأي اتجاه محدد إلا من خلال قراءتها ضمن سياقها الخاص والتاريخي كأشياء شخصية وحميمية لا تصلح لتكون دليلا حاسما على شخصية أديب ما وعلى أدبه.

 

 

رسالة قصيرة في 18 آذار (مارس) 1913 يخبرها فيها أن هناك عقبة أمام قيامه بالرحلة وهي رسالة خارج الصدد كما يرى المترجم، ولا ندري إن كان المقصود هو المترجم العربي أم الأجنبي الذي ترجم الرسائل من الألمانية إلى الفرنسية. أما إلياس كانتيني فيعتبر الرسالة ذات علاقة بسفر كافكا إلى فلسطين.

 

 

وفي رسالة قصيرة بتاريخ 29 /30/ نيسان (ابريل) 1913 يخبر كافكا المرسل إليها بأنه دعي لمشاهدة مسرحية بلغة يهود أوروبا 'اليدش' وبأنه أسرع بالخروج من المسرحية قبل نهاية العرض ليرسل تلك الرسالة.

 

 

تلي بعد ذلك أربع رسائل مختلفة الأطوال وخارج الصدد، فخامسة موجهة من والدة كافكا إلى والدة الآنسة فيليس باور وهي خارج الصدد أيضا، ثم رسالة مؤرخة في 26 أيلول (سبتمبر) 1926 ترد فيها جملة واحدة تقول (أصدقاؤك وأخواتك وأمك ما هو موقفهم من بيت الشعب اليهودي؟).

 

 

وفي رسالة بتاريخ 5 تشرين الأول (اكتوبر) 1916 ترد الجملة التالية (هل تعرفين هذا الاسم؟ انه يلعب دورا مهما في الصهيونية. هوغو بيرغمان).

 

 

وفي بطاقة بريدية مؤرخة في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 1916 يعلق فيها على قول أحد الكتاب أن هناك شيئا ما ألمانيا وجوهريا في أدب كافكا القصصي ويقرنه بما كتبه ماكس برود الذي قال ( إن قصص كافكا تقع ضمن أكثر الوثائق اليهودية النموذجية في عصرنا) فيعلق كافكا بسخرية مرة (مسألة صعبة، هل أنا خيَّال في سيرك امتطي جوادين؟ واأسفاه! فأنا لست خيالا، ولكنني أتمدد على الأرض منهكا). واضح أن كافكا يسخر هنا من محاولة برود زجه ضمن الأدب اليهودي والصهيوني، ويبدو أنها أول محاولة مبكرة لبرود في هذا الصدد.

 

 

في بطاقة بريدية بتاريخ 10 ت1 1916 كتب كافكا انه سيقرأ للمرسل إليها مسرحية جديدة هي 'مستوطنة العقاب'، وستكون لنا وقفة خاصة بهذا العمل شديد الأهمية لكافكا ضمن توجهنا النقدي. وفي الهامش نقرأ عبارة ماكس برود التي يعترف فيها بأن كلمة يهود أو يهودي لم ترد إطلاقا في أعمال كافكا إلا أن أعماله - كما يضيف مكابرا ومعاندا - تقع ضمن أكثر الوثائق اليهودية النمطية في عصرنا.. هامش/ ص 92

 

 

وفي رسالة بتاريخ 14 ت 1 1916 ترد الجملة التالية (في رأيي فإن التقرير قد أغفل الاعتبار الكافي أو الجزاء للمنظمين والمساعدين فالصهيونية والحماسة (يلاحظ المترجم أن الكلمة entusiasm تعني أيضا التعصب الديني) ليستا كافيتين.

 

 

رسالة بتاريخ 4 ك1 1916 يسجل كافكا أن ماكس برود أطاح بمسرحية أرسلتها فيليس له وهي بقلم صديق لها، وان برود قيمها بشكل سيئ، واعتبرها لا تملك أية جدارة أو ميزة وانه - كافكا - كان يحب قراءتها غير أن ذلك لم يعد متاحا الآن. فهل مزق ماكس برود مسرحية صديق فيليس؟ كافكا يبرر لبرود فعلته بالقول انه تعرض لطلبات كثيرة كهذه وانه لم تتح له قراءتها باهتمام.

 

 

أربع بطاقات بريدية خارج الصدد.

 

 

25 تموز (يوليو) 1916 بطاقة بريدية / سؤال خارج السياق في نهاية النص: ماذا عن البيت اليهودي؟

 

 

26 تموز (يوليو) 1916 بطاقة بريدية / خارج الصدد.

 

 

وفي رسالة بتاريخ 29 تموز (يوليو) 1916 نقرأ قوله (ما يهمني وهو يهمك ليست الصهيونية كشيء بحد ذاتها إنما إلى ماذا يمكن أن تقود) وهذا تساؤل محايد يعبر عن التوق لمعرفة المآل أكثر مما يعبر عن طموح معروف ومحدد مسبقا إضافة إلى تعبيره ضمنا عن عدم اهتمام من النوع السياسي البحت بالصهيونية.

 

 

وفي 30 تموز (يوليو) 1916 بطاقة بريدية / خارج الصدد

 

 

فبطاقة في 2 آب (أغسطس) 1916 يعلق فيها على مجلة للاجئين اليهود ويصف صفحة التسلية فيها بأنها مكتوبة بشكل رديء ويظهر فيها ما أسماه 'الجو الصهيوني الغريب' ثم يعقب (أنت لست بحاجة لوخز الضمير بأن البيت اليهودي والصهيونية التي لم تألفيها بصورة فعالة) ثم يختم رسالته بالقول (إن الصهيونية سهلة المنال اليوم لمعظم اليهود وهي على الأقل في فروعها الخارجية المتطرفة الآراء مجرد مدخل إلى شيء ما بعيد وشديد الأهمية).

 

 

بطاقة في 9 آب (أغسطس) 1916 يختمها بإهداء تحياته إلى الآنسة غريت بلوخ ويسألها عن موقفها من جمعية بيت الشعب اليهودي.

 

 

بطاقة في 18 آب (أغسطس) 1916 / خارج الصدد.

 

 

رسالة طويلة في 11 أيلول (سبتمبر) 1916 كلام غير واضح عن محاضرة للدكتور ليهمان وعن مشكلة ستستمر بالبروز كما يكتب لها 'لإثارة الإزعاج أمام الأسس العميقة للصهيونية '.

 

 

رسالة بتاريخ 12 أيلول (سبتمبر) 1916: يرد فيها نصحه لها بأن لا تتكبر على عملها في تقديم المعونة عبر بيت الشعب اليهودي مهما بدا صغيرا، وان حالته الصحية تمنعه من القيام بمثل هذه الأعمال ثم يرد قوله : إن العلاقة بين كل هذا 'موقف اليهود في أوروبا' وبين الصهيونية يكمن في طريقة عمل الشباب الصهيونيين، كيف وصلتِ إلى اتفاق مع الصهيونية تلك هي قضيتك وأية اتفاقات معها (اللامبالاة خارج القضية) سوف تكون مبعث سرور بالنسبة لي. ولكنك سوف تشعرين بنفسك يوما في أن تكوني صهيونية وسوف تتأكدين فيما بعد أنني لستُ صهيونيا وسوف يتضح هذا من خلال التجربة أو الفحص) هذه الشهادة أهملت من دون أدنى مبرر من قبل المترجمين والمعلقين..

 

 

بطاقة في اليوم نفسه خارج الصدد.

 

 

بطاقة بريدية في 15/أيلول (سبتمبر) 1916 خارج الصدد.

 

 

بطاقة بريدية 16 أيلول (سبتمبر) 1916 ترد فيها شهادة مهمة أخرى هي (هناك غموض مظلم لليهودية التي تتضمن العديد من السمات التي لا يمكن اختراقها. أنا لن أفكر بالذهاب إلى الكنيس. فالكنيس ليس هو المكان الذي يستطيع المرء التسلل اليه وأولئك الذين يحتشدون أمام الكنيس ببساطة لأنهم صهاينة يبدون لي مثل الناس الذين يشقون طرقهم داخل الكنيس تحت غطاء من ميثاق تابوت العهد). علي أن أسجل هنا بأنني لم أفهم الاستعارات والمجازات التي استخدمها كافكا ولكني لا أشك من خلال سياقها العالم بأنها تنطوي على وجهة نظر ليست لصالح الصهيونية والكنيس اليهودي كمؤسسة دينية.

 

 

بطاقة في 22 أيلول (سبتمبر) 1916 خارج الصدد

 

 

رسالة طويلة جدا في 30 أيلول (سبتمبر) أو 1 ت1 1916 تقع في أربع صفحات ونصف الصفحة مع الهوامش خارج الصدد، ولكن يرد فيها اعترافه بأنه وحين سألته إن كان مخلصا لها قال بأنه (عانى مشقة مريرة في الإجابة، ولذلك لجأ لأكاذيب قليلة مفترضا) كما يقول حرفيا (مفترضا انه من الممكن اقتراف أكاذيب قليلة جدا لأنني مخلوق كذوب). ورغم طابع الدعابة الواضح في كلام كافكا، وجوابه الذي لا نعتقد إن رجلا، أي رجل، يطرح عليه هذا السؤال من قبل حبيبته أو زوجته سيلجأ إليه، إلا أن المترجم يعتبر ذلك دليلا على ثبوت اقتراف كافكا للكذب وبأنه كذوب..الخ. وفي هذه الرسالة يكشف كافكا لحبيبته عن سر رهيب وهو أنه مريض مرضا خطيرا وأنه سيموت لأن السل الذي أصيب به من النوع الذي (لا يمكن لجمه أو الشفاء منه).

 

 

لم نشمل بعرضنا هذا النصوص التي أضافها المعد والمترجم للكتاب تحت عنوان 'مقتطفات حالة' من كتب أخرى ككتاب يانوش' كافكا قال لي 'لأسباب تتعلق بالمنهجية النقدية التي نتبناها وآثرنا التركيز على رسائل كافكا فقط ولكننا نورد الفقرة التالية من يومياته لأهميتها:

 

 

ومن اليوميات وبتاريخ 21 آب (أغسطس) 1913 نقرأ (إن أوضاعي لا تحتمل وهي تتناقض مع ميولي ورغباتي الوحيدة واعني بذلك الأدب. الأدب هو كل كياني ولا أريد ولا أستطيع أن أكون غير ذلك). وهذه هي الشهادة الأهم، التي توقف عندها ميلان كونديرا وسنتوقف عندها بدورنا مستقبلا.

 

 

 

 

هذه هي الرسائل التي قيل إنها احتوت على مواقف كافكا وآرائه من الصهيونية، والتي ذكر فيها فلسطين، وليس مجرد رحلة لخطيبته إلى فلسطين، وهي بكل المقاييس لا تشكل شيئا ذا بال، ولا يمكن التعويل عليها لاستخلاص موقف منسجم وواضح ومتكامل لكاتبها من الحركة الصهيونية ومن فلسطين. دع عنك إنها تكشف عن تحفظات كثيرة ونفور من الصهيونية ذاتها، فههنا نجد فعلا تفهما لجمعية بيت الشعب اليهودي الخاصة بجمع المعونات لليهود وتشجيعا للخطيبة للمشاركة فيها، ونجد أيضا ملاحظات ووجهات نظر سلبية من الصهيونية كما نجد نفيا صريحا لكونه صهيونيا، مثلما نجد تأكيدا لحضوره للمؤتمر الحادي عشر لها، ولكنه حضور شكلي انطوى على موقف سلبي للغاية منه ومن المشاركين الذين وصفهم هو بأنهم 'لا يحتملون فيه'.

 

 

لقد قدمنا هذا العرض السريع الذي حاولنا أن يكون محايدا قدر الإمكان، فلم نستثن رسالة أو بطاقة ورد فيها ذكر العنوانَين المعنيين، ولم نفعل ذلك في معرض بناء دفاع منسجم ومتكامل عن كافكا لأننا نؤمن عميقا بأن دفاعا كهذا لا يمكن العثور عليه إلا في أدب كافكا الإنساني العميق المناهض للقمع والإكراه والظلم، فهذا المنجز الأدبي الفذ يقف بحد ذاته خير دفاع عن صاحبه، ويمكننا أن نجد في روايته ' المحاكمة ' إدانة للقمع الشمولي والتمييز العنصري وكافة منظومة ثقافة الكراهية التي قامت الصهيونية على أساسها، بل وشكلت لحمها الحي، ودماغها المفكر، وذراعها الذي بطش بأطفال فلسطين ولبنان ومصر وسوريا. إن أدبا كأدب كافكا الفاضح للقبح والهمجية، بجمالياته الفنية الجديدة والرائدة في زمانها والشاطب على الظلم والإكراه لا يجمعه جامع بحركة سياسية عنصرية أوجدت مجازر دير ياسين الفلسطينية وبحر البقر المصرية وقانا اللبنانية..الخ.

 

 

فإذا ما صرفنا النظر مؤقتا عن هجمات بعض المثقفين والكتاب العرب المكررين لتهمة صهيونية كافكا كنوع من التعويذة السحرية ذات المفعول التطهيري والطارد للأروح الشريرة، نرى أن النازية الألمانية أحرقت كتب كافكا كما فعلت مع كتب مئات الكتاب الألمان والأوروبيين الذين اعتبرتهم معادين لعنصريتها، أما اليهود المتعصبون فقد أحرقوا كتبه أيضا بسبب مسرحيته ' حارس المقبرة ' التي يتعرض فيها بقسوة لشخصية اليهودي. الأنظمة الستالينية في أوروبا الشرقية منعت كتبه، والكنائس رفضته بحجة أنه سوداوي ويشجع اليأس. اليمين واليسار السياسيان الأوروبيان التقليديان اجتمعا على موقف سلبي منه، وكل هذا حدث بعد سنوات عديدة من موت كافكا مجهولا وغريبا، وبعد أن نجح متعصب هو ماكس برود من ترويج نسخته الخاصة من كافكا المسخ، الذي لا علاقة له بكافكا الفنان والأديب الإنساني.

 

 

 

Orhan-Bamouk.jpg

باموك يروي شذرات من حياته في كتاب جديد

 

 

 

صدر عن دار الشروق كتاب جديد للروائي التركي أورهان باموك ، الحائز على جائزة نوبل فى الأدب عام 2006 ، بعنوان "ألوان أخرى" التي قامت بترجمته سحر توفيق. يتضمن الكتاب ألوانا متعددة من الكتابة للكاتب أورهان باموك ، حيث يشير فى مقدمة الكتاب إلى أنه يتكون من أفكار وصور وشذرات من الحياة ، لم تجد طريقها إلى رواياته ، فوضعها معا فى الكتاب على شكل سرد متصل. وجمع باموك هذه الكتابات لتشكل كتابا يدور فكرته الرئيسة حول السيرة الذاتية ، حيث أكد فى المقدمة أنه تخلص من جزئيات كثيرة ، واختصر جزئيات أخرى ، كما استعان بمقتطفات من المقالات والمذكرات ومنها الأحاديث الثلاثة التى نشرت ككتاب منفصل بالتركية تحت عنوان "حقيبة أبي" والتى حملت محاضرة نوبل نفس العنوان أثناء تسلمه للجائزة. مقالات حياة أورهان باموك بدأت منذ كراهيته للمدرسة فى صباه ، إلى الأحزان المبكرة فى طفولة ابنته ، ومن نضاله الناجح للإقلاع عن التدخين ، إلى القلق الذى تولاه لدى احتمال شهادته ضد لصوص سرقوه أثناء وجوده فى نيويورك. كما كتب باموك عن الالتزامات العادية التى كانت تبعده عن الكتابة مثل استخراج جواز سفر ، وحضور وجبات الأعياد مع الأقارب ، ويعلن باموك إيمانه بالأدب القصصي وينهمك فى تأمل أعمال الكتاب السابقين ، مثل لورنس ستيرن ، دستويفسكي ، كما يعلق على رواياته الخاصة مثل اسمى أحمر ، القلعة البيضاء ، وضمن الكتاب أيضا مختارات من اللقاءات الصحفية حول مؤلفاته. يذكر أن باموق ولد عام 1952 فى تركيا ، درس العمارة لثلاث سنوات ، فى جامعة اسطنبول ، ثم تركها ليتفرغ للكتابة ، وفاز بجائزة نوبل فى الآداب عام 2006 ، كما فاز بالعديد من الجوائز الأدبية منها جائزة دبلن الأدبية ، عن روايته "اسمي أحمر" عام 2003 ، وترجمت أعماله لأكثر من خمسين لغة ، ومن أعماله"جودت بيه وأولاده" 1982 ، البيت الصامت 1983 ، القلعة البيضاء 1985 ، الكتاب الأسود 1990 ، الحياة الجديدة 1990 ، اسمي أحمر 1998 ، الثلج 2002 ، متحف البراءة ,2008

 

التاريخ : 18-01-2010

 

OrhanBamouk-Istanbul-novel.jpg  
	

'متحف البراءة' لأرهان باموك:

 

 

رواية موسوعية عن اسطنبول وبحث في حياة المدينة وسط حداثة زائفة

 

 

ابراهيم درويش

 

 

 

 

18/01/2010

 رواية التركي ارهان باموك الحائز على نوبل 2006 تبدو اكثر تجريبية من غيرها من رواياته السبع السابقة، فمن ناحية الاسلوب يغرق الراوئي في تجربة المرواغة وخداع القارئ بتبادل الادوار والظهور داخل النص الروائي كواحد من الابطال الذين يتلاعبون بالاحداث فهو الراوي والبطل.وهذا وان لم يكن جديدا عليه حيث بدا واضحا في روايته قبل الاخيرة 'ثلج' لكنه يبدو اكثر وضوحا اذا اخذنا بعين الاعتبار ان روايته ليست عن قصة حب رومانسية ذات طابع تراجيدي لكنها عنه وعن مدينته وذاكرة اسطنبول الماضية التي حدثنا عنها في مذكراته 'اسطنبول' (2003) وكما بدت الاخيرة متحفا للذاكرة والتاريخ الماضي فهي الان متحف للبراءة وهو عنوان الرواية، 'متحف البراءة'، التي ظهرت ترجمتها للانكليزية هذا الشهر وبترجمة مورين فريلي. وتظل الرواية كما هي الروايات المعاصرة تحاول اغراء القارئ بصدقيتها وصدق شهادة رواتها وعدالتهم، فمن ناحية الشكل يقص علينا باموك قصة تركيا المعاصرة في منتصف الخمسينات مع ان الراوية لا تبدأ في الحقيقة الا عام 1975 وتنتهي عام 1984 بوفاة البطلة او الحبيبة لكنها ( الرواية) تعود بنا اماما وخلفا وتحفر في الماضي التركي منذ اتاتورك وتعود الى الماضي العثماني القديم. وعليه فالقصة تقدم الينا من خلال 83 فصلا قصيراً وخفيفاً باستثناء الفصل 24 وهو حفل عقد القران الذي يقدم في اكثر من 44 صفحة (103 -147). وفي نهاية الرواية يقدم لنا باموك مسردا باسماء الابطال واماكن ظهورهم في الكتاب. وقد استعاض بهذا المسرد عن قائمة المراجع التي يذكرها ويتخذها كمرجعية تاريخية وادبية لحكاية قصة تركيا الحديثة وهي مراجع عن الثقافة الشعبية والسينما التركية والموسيقى وكتابات المستشرقين والادباء من دوستوفسكي الى بروست وناباكوف واخرين تحضر اسماؤهم هنا وهناك في سياق سرد قصة حب البطل كمال بيه وفوسون وتجلية اجواء الحزن الذي دائما ما يخيم على مدينته اسطنبول، والبحث مثل فيلسوف عن معنى السعادة والحب والفقد والنسيان. ففي المدينة الشرقية لا بد ان يكون الحب مدمرا ولا بد ان يكون عشقا على طريقة ' ليلى المجنون' وهو العشق الذي ينتهي بأبطاله إلى الجنون والبله. اللافت هنا ان شقي الرواية هما كمال بيه واخوه عصمان 'عثمان' الذي يبدو شخصية ثانوية في الرواية ولكن وجود كمال بيه لا يمكن تخيله بدون عثمان ببساطة فترتيب فصول الرواية وطريقة سردها يوهم القارئ بأنه يتعامل مع عمل اكاديمي، فالسارد هنا يذكرنا دائما ويحيلنا بشكل متكرر للاحداث الماضية ويقول بلغة الكاتب الواثق من معلوماته ان هذه الشخصية ظهرت هنا وان الاحداث بدأت كما يقول في ' الالف والتسعمئة وخمس وسبعين'هكذا بالحروف بدلا من الارقام.

 

 

الحب في زمن الكوليرا ـ على الطريقة التركية


تبدو الرواية في ملمح من ملامحها تذكيرا بماركيز 'الحب في زمن الكوليرا' من ناحية ملاحقة البطل للحبيبة حتى النهاية لكن بطلنا لم ينتظر سوى 8 اعوام قضاها الى جانب الحبيبة وفي بيتها تناول 1593 وجبة عشاء بعد الدعوة المفتوحة التي وجهتها له والدة فوصون، نسيبة هانم على مدار 2864 اي 404 أسابيع حيث كان يذهب كل سبت لبيت العائلة وخلالها جمع 4212 عقباً من اعقاب السجائر التي دخنتها فوصون اثناء الزيارة ولعب 'الطمبلة' ومشاهدة التلفاز وشرب العرق 'راكي' وهذه الارقام والتواريخ مهمة لان الكاتب هنا يحدثنا كمدير للمتحف الذي اقامه تخليدا لذكرى فوصون والحب وذاكرة اسطنبول، فهو يذكرنا لاحقا ان كل عقب مر من شفتي فوصون له قصة كتبها وسردها تحت كل عقب علقه على جدار المتحف. وعليه يفهم هوس السارد بالمعلومات والتواريخ والارقام وتأكيد اقواله اما من شخص اخر 'باموك' نفسه او كتاب وقصاصة جريدة تعود لتلك الفترة، صورة او حكاية من شلة الاصدقاء شهود قصة الحب.

 

 

 

 

لوليتا تركية

 

وحول طبيعة الحب هنا من يطرح ملاحظة اخرى ان 'متحف البراءة' هي نسخة ناباكوفية تركية ' لوليتا تركية' من ناحية طبيعة العلاقة التي تمت بين صبية دخلت عند لقاء كمال بيه سن الثامنة عشرة، فيما كان عمر كمال ثلاثين، مما يطرح اشكالية حول طبيعة خيارات الفتاة وهي قريبة بعيدة لكمال بيه استبعدت عائلتها بسبب قرارها المشاركة في مسابقة ملكة جمال تركيا، لحسن الحظ لم تتقدم لكن فكرة المشاركة في مجتمع تركيا المنفتح والمتحرر كانت خروجا على التقاليد. ومن هنا قطعت عائلة كمال بيه العلاقة مع العائلة. وهناك من يرى في الرواية الجديدة على انها عودة لعصر البراءة وتذكير برواية ايديث وارتون ' عمر البراءة' وكل هذه التمثيلات يمكن تقبلها او التعامل معها بايجابية من خلال تعاملنا مع تجربة باموك التي ظلت متجذرة في تقاليد الرواية الاوروبية فهو ابن مدرسة الرواية الاوروبية وممثليها: دوستويفسكي وبروست وجويس وناباكوف وبورجيس وفولكنر .وكما قال انه كان يكتب ' بعين مفتوحة على الغرب' فقد تعلم من دوستويفسكي الطاقة والتأكيد على الكتابة، ومن ناباكوف الاهتمام بالتفاصيل التي تعود الى طفولته ومن براوست القدرة على اختراع الحكايات الخيالية عبر استحضار الطفولة.

 

 

 

 

ضد ادب الريف

 

 

 

 

تظل رواية باموك الجديدة وحتى تجربته الراوئية متجذرة في التقاليد الروائية التي اكدها الراوئي التركي احمد تانبينار (1901 - 1962) والذي قابلناه في اسطنبول مع اننا لسنا بحاجة الى قراءة الاخير كي نستمتع بروايات باموك الذي يكتب بلغة عالمية انسانية مساحتها اسطنبول. ويظل قريبا من نماذج الكتابة التقليدية الغربية، اكثر من قربه من التجربة الروائية التي عبرت عنها الواقعية الاشتراكية ورواية اليساريين الاتراك من يشار كمال ونيسين فكمال الذي يعد ابا الرواية التركية الحديثة قدم رائعته ' محمد الناحل' واخرى مثل جريمة سوق الحدادين وباب القلعة وعبرت عن ادب الريف او القرية ومن هنا يقال انه عندما اخبر باموك احد اقاربه بقراره بالتفرغ للكتابة الروائية جاءت الاجابة الطبيعية من القريب 'انك لم تزر قرية في حياتك' فباموك هو ابن الطبقة الثرية التي حافظت على تراثها من الغنى والتراتبية الاجتماعية ورواياته تظل تدور في سياق هذا العالم، الذي لم يذق يوما ابطاله اضطهاد ارباب الاراضي ولم يعرف عن الفقر وجرائم الشرف التي كانت تيمة خاصة في السينما التركية الشعبية. ومن النادر ان يغادر ابطال باموك المدينة للقرية. فمشاكلهم دائما نابعة من طريقة رؤيتهم لانفسهم مقارنة مع الغرب.

 

 

 

 

باموك والعثمانيون الجدد

 

 

 

 

ولهذا تظل الذاكرة مسرحا هاما لاعماله والحفر فيها وعنها وانشغالا مهما من انشغالاته، فهو مهتم بالكشف عن التناقض والهشاشة والتوزع والانفصام في الشخصية التركية نظرا للعلمنة والتغريب القسري الذي مارسته مؤسسة كمال اتاتورك عندما اجبرت التركي على التخلي عن ماضيه ' الرجعي' وكل ما يذكر بالعثمانيين مع انها لم تكن قادرة على محو الاثار العثمانية ليس في اطارها الجسدي بل من ناحية تجذرها في الروح التركية التي ظلت اسلامية. ولهذا ينظر الى ان باموك اول من احيا التاريخ العثماني ويمكن ودون تردد نسبة ' العثمانيين الجدد' اليه واعماله الروائية قبل ان يتجسد سياسيا من خلال المؤسسة الحالية وسياساتها المتمثلة بحزب العدالة والتنمية، لأننا عندما ننظر الى مجمل التجربة الروائية لباموك نلحظ هذا الهام من 'الكتاب الاسود' و 'اسمي احمر' و 'القلعة البيضاء' وبروزها الاشد في مذكراته عن 'اسطنبول' كلها تشير الى هذا المنحى الذي حاول تفكيك اسطورة النشوء التي قامت عليها الكمالية وتركيا الحديثة. ويبدو هذا واضحا في مواقفه السياسية التي سببت له اشكاليات مع القوميين الاتراك من ناحية تجرئه على التعامل مع قضايا حساسة مثل مذبحة الارمن عام 1916 واشكالية الاكراد الذين يسمون 'اتراك الجبال'، ولكن الاهم من ذلك وهو ما تتضمنه الرواية الاخيرة هي قدرته على تعرية الرضوض في النفسية التركية ومعنى ان تكون غربيا. خلاطات كهربائية من دون قطع غيار فالطبقة الغنية التي تتسوق في باريس وهارودز في لندن وترسل ابناءها الى المدارس الاوروبية والخاصة تظل محافظة في العمق. التحرر مقبول في المظهر ولكن فكرة العذرية والحياء والعار تظل حتى في المجتمع الراقي امرا اشكاليا، فالتغرب هنا ليس الا قشرة، طبعا هنا نتحدث عن ظروف تركيا في الستينات والسبعينات التي كان فيها، كما تنورنا الرواية، ابناء هذه الطبقة يتنافسون على امتلاك كل ما هو جديد واوروبي، آلات حلاقة كهربائية، خلاطات وآلات لصنع المايونيز دون ان يعرفوا ان قطع الغيار غير متوفرة في تركيا مما يعني تحولها الى خردوات وصورة عن ماض قريب. وفي الوقت الذي كانت الدولة تتحكم فيه باستيراد البضائع الاجنبية الا ان كل ممنوع كان متوفرا من الخمور والدخان المهرب عبر البحر والمباع في السوق السوداء. اسطنبول التي يقدمها لنا باموك هي تلك التي كانت فيها المكالمات الدولية نادرة والهواتف العامة غير موجودة. وهي تركيا التي لم تعرف المشروبات الغازية الا من خلال اول مصنع اقامه صديقه زعيم' لبيع اول ماركة ميلتيم' قبل ان تدخل كوكا كولا وغيرها من الماركات. وتركيا التي يقدمها لنا في ' متحف البراءة' هي تلك التي كان مجتمعها الراقي يعيش على النميمة ويتنابز بالالقاب، وهي تلك التي كانت فيها اصوات الانفجارات والصراع بين اليسار واليمين على اشده والانقلابات العسكرية لا زالت شكلا عاديا من الصراع على السلطة. وهي تركيا التي كان يقاس فيها تحرر الشخص من خلال قربه من ' التقاليد' اي اشكالية فلاح ومدني. فيما كانت دور الازياء الراقية تزيف الماركات وتنقلها من مجلات الازياء وتبيعها لهذا المجتمع المتخم بالمال والمتعطش لكل ما هو غربي. هذا المجتمع الفوقي كان يدعي الحداثة ويشرب العرق المحلي الصنع حتى السكر. هذه اجواء ضرورية لفهم رواية باموك ' متحف البراءة' فهي تحيل من خلال ابطالها الكثر على الواقع وتتخذ من التاريخ والماضي اطارا لرسم معاناة الشخوص وفكرة ان تكون تركيا حديثا في العقود الاخيرة من القرن العشرين. ومن هنا وجد باموك من التاريخ ومتحفيته اطارا لرسم تفاصيل هذا العالم الذي يبدو بعيدا رغم انه تمظهر في مجتمعاتنا كما في تركيا. فمن خلال المتحفية هذه نفهم طبيعة التحولات التي واجهها المجتمع، سياسية، ثقافية واجتماعية. كيف لنا ان نسرد تاريخ وذاكرة مدينة ضمن هذه التصورات. ارهان باموك منشغل دائما بالكشف عن الذاكرة الحاضرة والماضي في مجتمع متغرب ومتعلمن هو تركيا وهو ما يمكن ملاحظته في كل رواياته التي كان آخرها 'متحف البراءة'.

 

 

 

 

قبلات وحب في شقة

 

 

 

 

ما سبق هو اطار للقضايا التي تحتفي بها الرواية، تسامح وحب وحرية فردية وشوق انساني للسعادة ولكن الرواية التي تبدأ بفصول عن القبلات والعلاقات الجنسية تدور حول كمال بيه وهو ابن رجل اعمال يدير مع اخيه شركة والده 'ساتسات'، ونعرف انه متعلم في امريكا لكنه لا يعرف من الحب الا تلك الصور التي شاهدها في التلفاز او السينما ولم ير مشهد تقبيل الا اثناء دراسته. يلتقي كمال قبل حفل قرانه بفتاة تعمل في محل للملبوسات الراقية ويعرف فيما بعد انها قريبة له استبعدت عائلتها بسبب مشاركتها بمسابقة لملكة جمال محلية، حيث اعتبر التصرف خروجا على التقاليد مع ان ام الفتاة نسيبة هانم كانت تأتي لخياطة ملابس لوالدته. سبب دخول كمال بيه محل 'شانزليزيه' هو شراؤه حقيبة يد لخطيبته، سيبل، التي نعرف انها ابنه دبلوماسي سابق ومتعلمة في فرنسا وجميلة وكل من حول كمال يرى انه اختياره لها كان مناسبا وانهما زوج مثالي. لكن كشف والدته عن سر عائلة الفتاة واسمها فوصون التي يعجب كمال بجمالها واكتشافه ان الحقيبة مزيفة يدفعه لمغامرة اخرى والعودة الى المحل تحت ذريعة اعادة الحقيبة وعندها يتعرف على الفتاة اكثر وانها تدرس لامتحانات الثانوية. والكاتب هنا لا يصور لنا دوافع فوصون الاستجابة له ولقاءه في شقة تعود للعائلة وقرارها منح نفسها له ـ اي عذريتها ـ حيث يبدأ الاثنان علاقة حب ساخنة ويجربان فيها كل الوان الحب. كل هذا يحدث وكمال يحضر لقرانه من سيبل التي تبدو متسامحة وحريصة على خطيبها. تنتهي العلاقة قبل ايام من حفلة القران. لكن اثرها سيكون مدمرا عليه وعلى علاقاته مع خطيبته واصدقائه وعائلته وعمله ورؤيته لنفسه. كان كمال بيه يقضي ساعات الغذاء مع فوصون في عش الحب الذي تحول لمتحف الذاكرة وفيه سيقوم كمال باستعادة كل الاشياء واللحظات ويشم كل الاشياء التي تركتها تلك الحبيبة التي اختفت من المشهد، تركت العمل وتركت البيت مع والدها لنعرف انها تزوجت من اخر يعمل في مجال السينما وكتابة النصوص.

 

 

 

 

البحث عن الجانب الاخر للمدينة

 

 

 

 

فقدان كمال بيه اللحظات الخاصة والمحرمة وخيانته لخطيبته هي مجال سرد الاجزاء الاولى من الرواية اذ نجده ضائعا موزعا بين خطيبة وفية وحبيبة عصية ومن خلال هذا التوتر نفهم الحياة وذكريات البطل عن المدينة وناسها، فهو يتذكر انه قابل البنت فوصون وهي صغيرة في عيد الاضحى مرة، وكيف انه ذهب معها للبحث عن ويسكي في دكان قريب وكيف شاهدا عملية التضحية بخرفان العيد في ساحة البيت. وكيف خافت فوصون في تلك المرة، ثم الفسحة التي قاما بها بسيارة والده مع السائق بحثا عن الخمر وكيف كانت اسطنبول في يوم العيد مثل مسلخ يجري الدم في حي من احيائها. لم تكن علاقة كمال وفوصون عابرة بل دخلت في دمه وكان خروجها من مجال نظره مدعاة للموت البطيء بالنسبة له. في البداية تعترف خطيبته بالوضع وتحاول مساعدته نفسيا وتأخذه لاول عيادة تحليل نفسي تفتح في المدينة. ولكن العلاج النفسي لم يكن مفيدا له، اذا انه على خلاف الكثيرين ممن يرتكبون خيانات لم يكن قادرا على التخلص من اثر وحب ' فتاة الدكان' كما تشير اليها خطيبته، في الماح الى البعد الطبقي للمجتمع التركي ذلك الوقت. ولم تنفع محاولات سيبل لتخليصه من حب الفتاة سواء بالانتقال معا إلى شقتها او تشجيعه على التركيز على عمله فقد ظل اسير لحظاته مع فوصون وحس الفقدان ظل يسكنه ويأكل روحه ويضعف جسده. وتصل الامور الى حالة تقرر فيها سيبل زيارة باريس مع صديقتها نورجيهان للتسوق. كان كمال بيه يعرف ان رحلتها ستكون اعترافا بان عقمه معها بداية تصدع في العلاقة وستعود ثم ترحل الى فرنسا لاكمال الدراسة ورحلتها الثانية ستكون آخر مرة يراها فيها، بعد ان فسخا الخطبة ولن يسمع باخبارها الى بعد 30 عاما حيث ستقترن بصديقه زعيم. رحلة خطيبته تعطيه الفرصة للبحث عن حيبيته الضائعة ومن خلال هذا البحث يتعرف على الجانب الاخر من اسطنبول واحيائها الفقيرة. يسكن في فندق بحي الفاتح ومنه يبدأ رحلة جديدة من حياته يقطع صلاته مع عالمه ويهمل عمله وتدور الشائعات حوله من انه اصبح صوفيا او شيوعيا ولكن رحلاته في داخل الاحياء الفقيرة بمدينته ستكون جذور متحفه، حيث اخذ يراكم المقتنيات له. ولن يخرجه من عزلته وتشرده الا وفاة والده حيث يعود لبيت العائلة ويعيش مع والدته. المرحلة الاخرى من حياته عندما تعود فوصون مع زوجها فريدون وتصبح زيارات كمال بيه لبيت العائلة متكررة وبعد الدعوة المفتوحة يصبح فردا من العائلة كل هذا من اجل ان يكون قريبا من حبيبته '. يذكرنا هذا بجميل في مسلسل دقات قلب التركي' وكما ذكرنا فقد حدثنا الراوي عن عدد الزيارات والمرات التي تناول فيها العشاء. في النهاية يقترب كمال بيه من فوصون بعد طلاقها من زوجها. ولكن قصة الحب لم تنته بنهاية سعيدة اذ تموت اثناء رحلة لهما الى اوروبا في حادث سير. على العموم هناك مقاربة بين مسلسل دقات قلب والرواية ويبدو ان كاتب نص المسلسل استلهم كثيرا من الرواية لكن كل هذه الاحداث ليست مهمة فالنص لا يكشف لنا عن صورة فوصون او سيبل الا بقدر وتظلان شخصيتين هامشيتين على الرغم من مركزيتهما للنص هنا، وما يهم هو ما يكشفه لنا كمال عن نفسه ومدينته وقدره فوالده احب مثل ابنه امرأة اخرى لكنها تركته لتتزوج بعد ان اكتشفت تردده ليعرف لاحقا انها لم تتزوج وماتت بالسرطان.

 

 

 

 

كل معلومة لها تاريخ

 

 

 

 

كل مفصل ونقطة وملمح او قطعة في ' متحف البراءة' تحمل الكثير من الدلالات التاريخية والثقافية والسياسة ومعها ينفتح الباب على التفسير والقراءة ومن هنا تنبع اهميتها فاقدار الابطال لا تعنينا بقدر أن ما يهمنا هو الذاكرة وما بقي منها. ويبدو باموك مثل طبيب تشريح او حارس للذاكرة يذكر طلابه او زوار متحفه الحي بكل شيء. كل ما يريده كمال هو ان يكون مواطنا صالحا 'تركيا' اصيلا لكنه متشوش حول الكيفية التي يزاوج بين تركيته وحداثته وهذه هي ازمة تركيا التي ظلت تدور بين الطربوش والقبعة. لكن مشكلة بطلنا انه كان يعيش في زمن التحولات والخيارات الصعبة ليس للدولة التي اختار لها كمال مسارها ولكن الجيل الذي كان يشهد هذه التحولات. والاشكالية تبدو معقدة لان الكاتب او البطل هو ابن ثقافة السبعينات المعروفة بتحررها ولهذا نلاحظ التردد ليس لدى بطلنا لكن كل من يحيط به. التحرر والحداثة تبدو مزيفة لان كل الاشياء التي تتداولها الطبقة الراقية مزيفة من السجائر الى الخمر الى حقائب ومن هنا تشير سيبل الى اشكالية الحداثة بقولها ان الاغنياء في اوروبا لديهم القدرة على التصرف وكأنهم ليسوا باغنياء. في النهاية تظل الرواية محاولة للبحث عن النفس او 'المركز' ولا تتم معرفة النفس الا بالحفر الاركيولوجي ومن هنا الاشارة الدائمة من قبل السارد لنفسه باعتباره انثروبولوجيا.

 

 

باموك في حالة عشق للذاكرة ومدينته وكل شيء فقدته المدينة منذ ان انهارت دولتها. وفي الرواية الاخيرة تتحول المدينة الى متحف للذاكرة او البراءة

 

 

في مذاكراته عن اسطنبول تجسد تاريخ المدينة من خلال شقة معتمة مليئة بالتحف والاشياء من الماضي. كان باموك يحلم بان يكون فنانا واخذ يرسم لوحات يقلد فيها اعمال بيكاسو ومونيه لكن امه ذكرته ان الهواية او الحرفة التي يريدها لا سوق لها في مدينة متوزعة بين الشرق والغرب 'هذه ليست باريس'. في 'اسطنبول' وصف لنا تعلقه صغيرا بموسوعة اسطنبول من تلك الموسوعات للناشئين لكن روايته الجديدة بناسها واشيائها ومتحفها وكشفها عن عادات وتقاليد سكان المدينة هي موسوعة بحد ذاتها ولهذا كتبت على مرحلتين من 2001 -2002 و2003 - 2008

 

 

 

 

نجم ولد في الشرق

 

 

 

 

يذكر ان تعرف القارئ الانكليزي على اعمال باموك تمّ عام 1990 مع ترجمة روايته 'القلعة البيضاء' اي الرواية الثالثة حيث لم تتم ترجمة العملين الاولين ولقيت الرواية حفاوة في الاوساط النقدية الغربية حيث اعلنت ' نيويورك تايمز' عن ولادة نجم في الشرق ومنذ تلك اللحظة يقارن باموك بجويس وموزيل وكافكا وكالفينو ومن الكتاب المعاصرين يشبه بول اويستر وهاروكي موراكامي. وانتج باموك سلسلة من الاعمال ومعها جاءت الجوائز امباك عام 2003 وجائزة الكتاب الالمانية عام 2005 ونوبل عام 2006، وفي نفس العام اختارته مجلة 'التايم' من بين مئة شخصية شكلت العالم منذ هجمات ايلول (سبتمبر).

 

 

ويقضي معظم وقته في نيويورك حيث يدرس بجامعة كولومبيا. وتنتمي عائلة باموك للطبقة الغنية وبنت عائلته ثروتها من بناء سكك الحديد في الايام الاخيرة للدولة العثمانية وخسرت معظم اموالها بسبب سوء الاستثمار وظل انتماؤه للعائلة ذات تاريخ ارستقراطي محل اهتمامه ومشهد العديد من رواياته ومذكراته.

 

 

ناقد من اسرة 'القدس العربي'

 

 

The Museum of Innocence

 

 

by Orhan Pamuk,

 

 

translated from the Turkish by Maureen Freely

 

 

Faber& Faber

 

 

London/ 2010

 

 

في 'عندما تشيخ الذئاب' تحطيم الأقانيم الثلاثة

 وحوار الشخصيات الملغزة

يوسف الحوراني

15/01/2010

رواية 'عندما تشيخ الذئاب'، التي صدرت نهاية العام الماضي لجمال ناجي، تبدو معنية بإثارة الأسئلة التي تومئ إلى الأبعاد العميقة التي تشف عنها الأحداث السياسية والاجتماعية دون المباشرة بالتصريح عنها، وبهذا يصير المطلوب من القارئ أن يعيد التفكير في الأسئلة إذا أراد التعرف على إجاباتها بدقة، ولهذه المسألة حديث آخر سنأتي اليه لاحقا، ولكن قبل ذلك، لا بد من الإشارة إلى ما تتمتع به هذه الرواية من جاذبية هائلة للقارىء، وخوض جريء في الأقانيم الوعرة المعروفة : السياسة والدين والجنس.

السياسة

لا تبدو السياسة في هذه الرواية جماهيرية ولا خطابية ولا متحمسة، إنما هي أقرب إلى 'واقعية السياسي العربي' الذي يخوض نضالات طويلة ويقدم التضحيات ليقع في مرحلة من حياته أسير رغباته الدفينة في تولي السلطة، إنها الواقعية المقنّعة التي تبدو جلية في شخصية جبران اليساري، الذي يقرر متأخرا أن التغيير لا يتم إلا عن طريق المشاركة في السلطة ومن داخلها لا من خارجها، هذه النتيجة التي تبدو نتاجا منطقيا أملته أسباب النضج والشيخوخة على جبران، هي في حقيقتها نتيجة اضطرارية فرضتها الإخفاقات التي منيت بها الأحزاب السياسية في صراعها مع السلطات خلال الحقب الماضية، على أن المثير في المسألة أن جبران يوهم نفسه بالنتيجة الأولى متناسيا فشله وفشل الأحزاب والتنظيمات في الاقتراب من مائدة السلطة عن طريق المعارضة المزمنة، يقول جبران: 'أستطيع القول، بناء على تجربتي، إن أول ما يلفت انتباه المعارض حين يصير وزيراً، هو تلك الحيل النفسية التي تتكاثر وتتوالد لتخلق لديه يقيناً بأنه يستحق الوزارة بعد تاريخه النضالي الطويل'. لكن جبران لا يقر بهذه الحقيقة إلا بعد تقاعده وانتهاء دوره في الحياة العامة وابتدائه بكتابة مذكراته، مذكرات الذئب الذي شاخ أخيرا، وهو ما يتكرر بطريقة مختلفة، عند رجل الدين الشيخ عبد الحميد الجنزير الذي يعد واحدا من مروضي السياسيين وصناع الوزراء وباعة الحقائب الوزارية، فالجنزير ليس هاوياً أو مبتدئاً في العمل السياسي على الرغم من أنه يحرص على أن يتخذ مظهر الشيخ الحاني على تلاميذه، المتصالح مع ذئاب السياسة الذين يزورون مزرعته ليلا، بحثا عن مواقع لهم في الدولة! تمكن قراءة هذا التشخيص والوصول اليه من خلال ما ورد على لسان الشيخ الجنزير في الرواية، فهو يقول في وصفه رواد مزرعته: ' كانوا يجتهدون في تفسيرهم لأسباب إقالة هذا المسؤول أو ذاك، وتوقعاتهم بمن سيتسلم هذا المنصب أو ذاك، وما إذا كانت الحكومة ستتغير أم أنها ستعمر بضعة شهور كي تتم دورها في تحسين الأوضاع الاقتصادية، أو حل مشكلة داخلية تتعلق بالنقابات أو الأحزاب، أو إجراء الانتخابات النيابية، أو رفع الدعم عن بعض السلع والمستلزمات، أو تحسين العلاقات مع بعض دول الجوار، أو غير ذلك مما تقتضيه المصالح العامة، ولكي يؤكدوا سلامة اجتهاداتهم وتوقعاتهم، كان بعضهم يبوح بمعلومات تعد من أسرار الدولة'.

هنا تطل شخصية عزمي الوجيه من خلال ما يقوله الشيخ الجنزير عنه:

'عزمي الوجيه لمّاح. قال لي: من يحضرون إلى المزرعة أربعة أنواع، وزراء أو نواب نافذون وسابقون، مستوزرون أو مستنوبون، رجال أعمال وأموال، ونوع رابع من الطامحين بأمور لا يعلمها إلا الله وهم، لذا فهم باطنيون مشفرون'.

الصراع السياسي المزمن بين اليمين ممثلا بالشيخ الجنزير وبين اليسار ممثلا بجبران يستمر، لا يستسلم أحدهما للآخر، على الرغم مما شهده العالم من تغيرات وتحولات، فالشيخ يقول مخاطبا جبران اليساري بنبرة مفعمة بالثقة' قلت لك منذ زمن، أنتم أصحاب مبادئ ونحن أصحاب عقيدة، المبادىء لا تصمد كالعقيدة، لأنها فضفاضة وعمومية، حتى أنها تكاد لا تقول شيئاً مفيداً، أما العقيدة فواضحة وتقول كل شيء، وفوق هذا فهي من عند الله'.

لكن، على الرغم من كل هذا، فإنه ما كان لجبران أن يصير وزيرا لولا تصالحه الموسمي مع الشيخ الجنزير، وما كان له أن يتأهل للوزارة لو لم تتقارب المسافات بينه وبين رجل الدولة 'أبو رامي' الذي يصفه قائلا وملخصا الموقف السياسي للجهات التي يمثلها ' أبو رامي ليس ثرثاراً ولا مجاملاً في أفكاره، إنما أكثر ميلاً إلى تحليل الظواهر والأحداث بعقل بارد. فهو يؤكد أنه لا يجوز لأحد أن يتوقع منا مهاجمة إسرائيل أو السماح بمهاجمتها من أراضينا، لأن هذا يعد انتحارا. السلطة الفلسطينية نفسها لا تقر مهاجمة إسرائيل وتريد حلولاً سياسية معها. نحن نفعل ما بوسعنا على المستويات الدولية لمساعدة هذه السلطة. نستثمر علاقاتنا مع أمريكا وأوروبا وغيرهما لدعم القضية وإقامة الدولة الفلسطينية، لكن عن طريق العمل الدبلوماسي. أما ما تطالبنا به الأحزاب والنقابات وسائر الأوساط الصاخبة، فمحض ثرثرات غير محسوبة لا يمكننا الأخذ بها، ولو فعلنا مثلما يريدون، لتقوض استقرارنا الوطني الذي يعد مثالياً'.

هكذا تفكك الرواية خطاب المعارضة والسلطة وتنظر الى داخله لتشير الى البراغماتية التي يتسم بها السياسي العربي سواء كان في السلطة أم في المعارضة.

الدين

الدين في الرواية أشبه بشماعة تستخدمها بعض الشخصيات لتحقيق الثراء والاستحواذ على أكبر قطعة من كعكة المجتمع والسلطة، فهو لم يشكل متكأ جديا لإصلاح الخلق وتحسين صورة الحياة، حتى لدى 'الشيخ عبد الحميد الجنزير' الذي يفتتح مراكز تحفيظ القرآن ويداوي الناس بالأعشاب والتعاويذ والآيات القرآنية ويستولي على المنابر الدينية ويلقي خطبه أمام الناس ويتصوف في مرحلة من حياته ويجمع التبرعات لإقامة المساجد ومراكز تحفيظ القرآن وإعالة الأيتام، كما أن أتباعه الذين يريدون تغيير الأشياء بقوة السيف إنما يضفون بعدا يبدو للوهلة متطرفا كما هو الحال مع شخصية 'بكر الطايل' الذي لم يكن سوى غطاء استخدمه الشيخ عبد الحميد الجنزير لتمرير بعض غاياته.

أما الشخصية الملغزة في الرواية 'عزمي الوجيه' فقد بدأ حياته كواحد من تلاميذ الشيخ الجنزير، لكن قدراته العقلية وذكاءه أديا إلى منافسته للشيخ، وخروجه عن طوعه، وتحوله الى شخصية عامة غير متدينة، بعد أن اشترك مع الشيخ في اختلاس أموال مراكز تحفيظ القرآن والاستحواذ على عطاءات بناء المساجد والمؤسسات الدينية الخيرية في إطار استثمار صريح للمنابر الدينية، لكن عزمي الوجيه يختط لنفسه مسارا آخر مختلفا عن ذاك الذي ينتهجه الجنزير على الرغم من استمرار علاقته معه، وربما يعود سر هذه العلاقة إلى مسألتين أساسيتين هما، المصالح المشتركة التي جمعتهما، ورغبة الشيخ في الزواج من سندس التي تقيم علاقة شهوانية مع ابن زوجها عزمي الوجيه.

هذه الرواية تقدم نقدا لاذعا لممارسات رجال الدين الذين يقومون بتسييس واستثمار الدين بذرائع تتنافى مع النصوص التي يتم الالتفاف عليها من أجل تحقيق المنافع والغايات غير المشروعة.

الجنس

لا تسمح هذه المساحة الصحافية باقتباس الفقرات التي تتناول الجنس بجرأة، لذا سأكتفي بتسليط الضوء على بعض المقاطع التي تقدم صورة تقريبية لما تزخر به الرواية من إيحاءات جسدية.

يحتل الجنس في الرواية مساحة معتبرة، فهو يأتي تارة على شكل إيحاءات مثيرة للقارىء وعلى لسان سندس التي يسطع نجمها في الرواية، فهي تصف ابتداء علاقتها بزوجها الثاني رباح الوجيه قائلة 'تطور الأمر ليلة رآني في الزقاق بثوبي الوردي، فأمسك ذراعي برجولة أوحت لي بفحولة محشورة، ولزني إلى الحائط وقال : جهزي حالك، نويت أن أخطبك من أمك!. قالها بنبرة راقت لي، فاكتفيت بسكوتي المتواطئ، واسترجعتُ تلك اللحظات مراراً بعد أن أويت الى فراشي'.

هذه الإيحاءات الجنسية لا تلبث أن تتحول إلى بوح أو تصريح مباشر بسبب انحكامها إلى سياقات موضعية ومقتضيات تعبيرية وفنية في الرواية. يقول رباح زوج سندس الثاني بلغته الشعبية: 'متّعتني سندس ليلتها، لكنها فضحتني بضحكاتها العالية. وتوقعتُ أن تخجل مني ليلة دُخلتي عليها، لكنها عملت العكس، خلعت فستانها وما تحته وظلت بشلحتها القصيرة الشفافة!'.

الجنس في الرواية يتركز حول شخصية سندس التي تزوجت ثلاث مرات، وأقامت علاقة حب مع ابن زوجها عزمي الوجيه، وفي نفس الوقت، استمتعت بما لدى الجنزير من معالجات حسية تثير شهوتها.

لغة الجسد التي تستخدمها سندس، تتخذ أبعادا مختلفة حين نقرؤها على ألسنة الشخصيات الأخرى، كالشيخ الجنزير، جبران، رباح الوجيه، وحتى هذا الاختلاف فإنه ينطوي على اختلافات أخرى بين هذه الشخصيات في تفسيرها ووصفها للجنس الذي يعد واحدا من مرتكزات الرواية.

لنقرأ هذه العبارات التي وردت على لسان الشيخ عبد الحميد الجنزير: 'كان بيّناً أن سندس امرأة غير مروية، وأن رباح الذي تزوجها بعد موت زوجته الأولى جليلة، رحمها الله وأحسن إليها، لم يُشفِ وهدة بدنها من أدران رغائبها المحشورة، ولم يفِها حقها من الجماع وخلافه. قد يجازيه الله يوم القيامة بسبب تقصيره معها'.

هكذا يرى الشيخ الجنزير سندس زوجة رباح الوجيه من وجهة نظره، لكن رباح الوجيه يراها على نحو آخر، يبدو هذا جليا في ما ورد على لسانه: ' يا الله يا الله ما أحلى ليلة دخلتي عليها، شعرت أنها مختلفة عن جليلة حتى وهي صبية. جليلة لم تكن حامية مثل سندس. سندس نار نار'.

أما سندس فلها رأي آخر في كل منهما وفي عزمي الوجيه أيضا، وهو رأي قائم على الجوانب الحسية الحادة، حتى انها تصف الشيخ الجنزير قائلة 'عيناه المكحلتان بثتا في روحي وجسدي أحاسيس مبهمة، فهُما ليستا مجرد عينين بشريتين كتلك التي عهدتهما في الرجال، إنما هما مجهريتان تكادان تعريانني من ملابسي، وتدعوانني إلى لملمة نفسي خشية انكشافي أمامه'.

وتصف زوجها رباح في واحد من مفاصل الرواية على النحو التالي 'أمور كثيرة تبدلت في رباح، فقد تخلى عن طريقته السابقة في الحديث بصوت قوي، وصار ميالاً الى الهدوء والسلام. تخلى عن استخدام ذراعه النحيلة بقوة لتأكيد أقواله والتشديد عليها. لم يعد يرفع حاجبه الأيمن الذي يوحي بوجود نوايا ذكورية لديه'.

أما عزمي الذي عشقته فتتحدث عنه في مقاطع كثيرة من الرواية منطلقة من حالة الخنوع التي تنتابها أمامه حيث تقول 'تلك كانت المرة الأولى التي أذلني فيها عزمي الوجيه، ليس لأنه صفعني، إنما لأنه لم يستجب لفتنتي واشتعال الرغبة في جسدي. فعلاً لقد أذلني. وصار بعدها يتحدث إليّ بنبرة الأمر التي لا يجرؤ والده رباح على استخدامها، ووجدتُني راضخة له بنفس راضية'.

ولو قمنا بمقاربة ما ورد على ألسنة شخصيات الرواية لاقتربنا من الحقيقة المستترة في بانوراما الحوار الصامت حينا والصاخب أحيانا، فالشيخ الجنزير يقول - وكأنه يرد على ما ورد على لسان سندس من أن عينيه تدعوانها إلى لملمة نفسها خشية انكشافها أمامه 'حسبتُها حرثاً ميسوراً، ولولا مخافة ربي واستعاذاتي به من الشيطان في قلبي لاستجبت لنداء بدنها ووطئتُها وفعلت بها ما أفعل بزوجتي أم صهيب'.

الشيخ الجنزير في قوله هذا يكذّب الاحتشام الذي تدعيه سندس، وفي نفس الوقت يشتبك مع زوجها رباح الذي ينسى نفسه في لحظات ضعفه، ويفصح - في وقت متأخر من الرواية- عما يعانيه بالقول 'نعم، أنا اشتهيتها قبل وبعد زواجي منها، لكن، لم أعد أقدر عليها بعد أن تعودت على تحضير نفسها كلما غيرتُ ثيابي ولبست بيجامتي'.

بهذا تكشف المقاربة ما خفي من مقدمات الجموح التي ضلل رباح خلالها قارئه، كما تكشف النوايا الخبيثة التي يكنها الشيخ الجنزير لسندس التي لم تستطع إخفاء تسكعها الجسدي المؤقت معه وشهوتها المزمنة لابن زوجها عزمي الوجيه.

ما حقيقة سندس؟ وإلى أين تتجه بوصلة شهواتها؟ ولماذا تنقلت بين متاهات ثلاثة رجال يختلفون عن بعضهم؟ سواء من حيث المستوى الاجتماعي أم طرائق التفكير ام وسائل التعبير أم وسائل الاستيلاء على جسد تلك الأنثى التي ترى في استسلامها انتصارا لها!

القراءة المتأنية للرواية تبين أن سندس قد نذرت جسدها لعزمي الوجيه، وهو الشخصية الغامضة التي تظل محتفظة بأسرارها حتى النهاية، لكن بدايات الاتصال بينها وبين عزمي اصطدمت بواقع قناعاته الدينية التي تردعه وتمنعه من الاستجابة لرغباتها، وهو ما زادها إصرارا على تحقيق غايتها، غير أن التحولات التي عاشها عزمي فيما بعد أدت إلى تغير جذري في سلوكه إلى حد أنه انغمس في ملذاته معها متناسيا أنها كانت زوجة أبيه رباح.

يمكن القول ان جمال ناجي قدم لنا في هذه الرواية عالما زاخرا بالتفاصيل التي لا تمل، وشخصيات لا تتصالح مع الرأفة أو الرحمة، فحين تصل الأمور عند نقاط الصراع وتضاد المصالح، تستذئب الشخوص كي تكشف عن عروقها الزرقاء المثيرة للذعر، فجبران يتنكر لابن شقيقته عزمي الوجيه، بكر الطايل يحاول اغتياله، الشيخ الجنزير يكون عراب القتل والفساد بصرف النظر عن النصوص الدينية التي تحرم الفساد والقتل والتآمر، أما سندس، الأنثى التي 'تستثير الحيطان' حسب جبران، فإنها كسواها من ذئاب الرواية، تستشرس حين تفقد الأمل بعزمي الوجيه، وحين ينثني عود زوجها الثاني رباح، وحتى حين يتزوج زوجها الأول صبري أبو حصة من امرأة ثانية، فإنها تقوم بحرق جثته بعد موته.

بين كل هذه الذئاب، تبدو المدينة وادعة رخية على حد تعبير العقيد رشيد حميدات، ويستكين البسطاء أمثال رباح، وفاطمة أم سندس، وعدلي الطيب، وعتاب شقيقة بكر الطايل، وأمه، وصبري أبو حصة الذي لا يستطيع الذود عن روحه التي تناهشتها الذئاب.

إن كل شخصية في هذه الرواية تستحق دراسة منفصلة نظرا لثرائها النفسي والروحي والسلوكي والموضوعي.

 

 

 

«عندما تشيخ الذئاب» لجمال ناجي..

 

 

 

 مسيرة الحياة الأردنية في عقدين

 

 

 

يوسف ضمرة

 

 

 

 

 

 

  يستكمل الروائي جمال ناجي في روايته الجديدة (وزارة الثقافة، 2009) ما بدأه في روايته الثانية «وقت»، وتابعه في رواياته اللاحقة: «الحياة على ذمة الموت»، «مخلفات الزوابع الأخيرة» و»ليلة الريش»، وهو مشروعه الذي يتلخص في كتابة التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية الأردنية، منذ أواسط القرن المنصرم.

 

 

 

 وقد لاحت ملامح هذا المشروع في روايته الأولى «الطريق إلى بلحارث» التي عدّها الكثيرون تجربة ذاتية -وقد تكون كذلك-، لكنها في الوقت نفسه تستنطق الواقع الاجتماعي الأردني في تلك المرحلة، حيث الهجرة المحمومة إلى الشرق، في ظل النهضة الاقتصادية التي أصابت منطقة الخليج بعد حرب تشرين.

 

 

 

 وإذ يصر ناجي على استكمال مشروعه الروائي هذا، ويكتب حتى اليوم خمس روايات تتحرك في عمان فقط، فإنه يرتكب مغامرة كبيرة لم يجرؤ على ارتكابها سوى مؤنس الرزاز وزياد القاسم. وفي كل تجربة من هذه التجارب، يُلحَظ بعض الخفوت أحياناً، وهو أمر طبيعي ما دام أن المكان واحد، كما حدث مع الروائي الكبير نجيب محفوظ. فلا أحد يستطيع وضع روايات محفوظ القاهرية كلها في مرتبة واحدة.

 

 

 

 ويمكن تسجيل إشراقتين لناجي في هذا السياق، هما «مخلفات الزوابع الأخيرة» و»عندما تشيخ الذئاب». ويبدو الأمر مقبولاً تماماً إذا ما استُحضر عامل الزمن، حيث يفصل بين الروايتين عقدان مكتملان من السنوات. وهو وقت يبدو كفيلاً بمراكمة تحولات كبيرة ملموسة، أكثر مما يمكن ملاحظته في ثلاث سنوات مثلاً.

 

 

 

 والغريب في هذه الناحية، هو أن هاتين الروايتين هما أكثر روايات ناجي تخمة في الشخوص والحكايات والوقائع، على عكس رواياته الأخرى. وقد تمكّن في هاتين الروايتين من إدارة شؤونهما الداخلية في روية وأناة، ما يجعل المرء يعدّ «عندما تشيخ الذئاب» نقطة مضيئة في مسيرة الرواية الأردنية.

 

 

 

 وقد تناول ناجي في هذه الرواية مسيرة الحياة الأردنية في العقدين الأخيرين، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي حتى الآن. لكنه تناوُل بعيد عن التأريخ والتوثيق. بل يمكن القول في ثقة، إن هذه الرواية واقع مستقل تماماً عن الواقع الموضوعي، وإن كانت تربطهما وشائج معروفة في نقطة ما. وهو شأن لا تنفرد به هذه الرواية فحسب، حيث الرواية عموماً واقع مستقل، الأمر الذي يدفع إلى تنحية المنطق التاريخي في القراءة، وإن كان لا يمكن الخروج عنه. أي أن ثمة قواعد جديدة للتعامل مع هذا الواقع الفني، مغايرة للقواعد الموضوعية، لأن التعامل هنا ليس مع كتابة تأريخية في أي حال من الأحوال، رغم الحضور الطاغي للتاريخ وعلاقته بالرواية. وعليه، فإن المبالغة الفنية تصبح أمراً مقبولاً، تماماً كالافتراق عن بعض الوقائع التاريخية التي جرت معايشتها.

 

 

 

 لكن اللافت في الرواية، هو تمكن الروائي من السيطرة على حكاياته وشخوصه وأحداثه، رغم تمددها واتساعها وانفتاح مداها. كما أن الروائي لا يسرد التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية في سياق توثيقي، بمقدار اعتماده العلاقات الإنسانية المتنوعة بمفرداتها اليومية المألوفة. فالحياة السياسية هنا لا تنفصل عن الهموم الفردية والهواجس الإنسانية اليومية للناس في مستوى مواقعهم. كما غاب الهجاء الطبقي المألوف في روايات عدة من قبل. ويبدو أن بروز الإسلام السياسي والاجتماعي والثقافي في العقدين الأخيرين، كان وراء اختفاء هذا الهجاء.

 

 

 

 بُنيت الرواية في الأساس على بروز هذه الظاهرة، وصعودها وتناميها، لا في الأردن فقط، بل في المنطقة كلها. ويبدو واضحاً أن الشخصية الرئيسة في هذه الرواية هو الشيخ «عبد الحميد الجنزير» الذي تدور الشخوص الأخرى في مدارات عدة في فلكه، بحيث بدت هذه الشخصية مثل قدر حتمي لهذه الشخوص، حتى حين حاولت الانعتاق من سطوته.

 

 

 

 ويبدو من اليسير تشبيه هذه الشخصية بنبوءة إغريقية لا مفر من تحققها، حتى لو حاول الآخرون تجنبها، تماماً كما حدث مع أوديب الذي حاول تجنب نبوءته فحققها. وهو ما يحدث هنا أيضاً، حيث حاولت سندس تجنب الشيخ فلم تنجح، وحاول كل من عزمي الوجيه وخاله جبران ولم ينجحا. وإذا كان الروائي يحاول إبراز سطوة الشخصية الدينية، إلا أن هنالك ما هو أكثر عمقاً في هذه الشخصية وأثرها.

 

 

 

 فالشخصيات الأخرى طالعة من الحي الضاربة جذوره في الثقافة الدينية، بحيث يظل ثمة خيط غير مرئي يشد الناس إلى جذورها. وهو ما يجعل القارئ لا يكتفي بعلاقات الشيخ الجنزير العليا فقط للاستدلال على مدى نفوذه.

 

 

 

 وإذا كان الروائي يرصد التحولات في المجتمع الأردني، فإن ثمة بناء فنياً قوياً تم إنشاؤه وحبكه في عناية، جعلت من بعض الشخوص نماذج فنية متفوقة، مثل سندس، المرأة التي تتجاذبها قوى عدة، وهواجس وانفعالات ذاتية متنوعة، تجعلها قادرة على المضي قدماً في تحقيق رغباتها، بغض الطرف عن النتائج التي لا تفكر فيها أصلاً. وإذا كان الشيخ عبد الحميد الجنزير يمثل حجر الزاوية في هذه الرواية، فإن سندس تمثل واحداً من مفاتيح الشيخ نفسه، بل ومن مفاتيح الرواية كلها، بالنظر إلى ما تتمتع به من قوة فنية مؤثرة.

 

 

 

 ولا يمكن المرور على هذه الشخصية من دون أن تذكُّر «إيما بوفاري» منذ اللحظة الأولى. فكلتاهما -سندس وإيما- طالعتان من أصول شعبية، ولديهما ذلك النزوع الغريب لتحقيق ما تفكران فيه وما تصبوان إليه. وقد ارتكبت كلتاهما من الحماقات ما يثير الرعب أحياناً، خصوصاً سندس التي لا تتورع عن إغواء ابن زوجها. وقد فاقت في ذلك ما قامت به إيما بوفاري. والفارق بينهما أن سندس بدت وكأنها تحب «عزمي الوجيه» ابن زوجها، ولم تقم علاقات غير شرعية مع سواه. لكنها في حبها ذاك، كانت تبحث عن ذاتها التي لم يتمكن زوجها من توفيرها لها، وإن تبدّى ذلك في الرغبة الجنسية.

 

 

 

 لكن ما تمكن ملاحظته أيضاً في الرواية، هو عدم الحياد اللازم للمؤلف. وعدم الحياد هذا لا يظهر في موقف الكاتب المعلن أو انحيازه إلى فكرة أو جهة دون أخرى. لكنه يتعين في إبراز جانب واحد من وجه الظاهرة الإسلامية، الأمر الذي جعل شخوصه الدينية كلها على مقدار واحد من الانتهازية والتلاعب بالدين وتوظيفه لأجل تحقيق غايات خاصة.

 

 

 

 وعدم الحياد هذا، أو الانحياز الفكري والسياسي في الرواية، هو الذي شكّل ضربة موجعة للرواية. حيث غابت التناقضات الأساسية بين الشخوص جميعها، فبدت كلها شخصيات انتهازية وصولية، وإن اختلفت في ما بينها في الأساليب والقدرات الذاتية. أي أن ثمة تعميماً هنا أفقد النفَس الدرامي قوته وأثره. وقد انعكس هذا أيضاً على الشخوص الأخرى خارج الدائرة الدينية، بحيث بدت الرواية إدانة للقوى السياسية والثقافية والاجتماعية الأردنية في العقدين الأخيرين، من دون أي مقابل أو معاكس. أي أن الرواية اتخذت لنفسها بعداً واحداً، تمثل في إدانة التجربة الإسلامية أولاً، والتجارب السياسية الأخرى التي أصبح همها المشاركة في السلطة السياسية القائمة، بعد اتفاقيتي أوسلو ووادي عربة.

 

 

 

 وإذا كان ثمة في الواقع الموضوعي ما يؤكد ذلك أو يعززه، فإن حركة التاريخ ليست كذلك أبداً، ومن مهمات الكاتب أن يغوص إلى أعماق الواقع، ويقرأ حركاته الباطنية التي لا تتوقف، لا أن يكتفي بالسطوح المعلنة. بل يمكن القول أيضاً إن التحولات السياسية والثقافية والاجتماعية الأردنية، تحمل في طياتها إرهاصات جديدة غير صارخة، تشي بتبدل النخب الثقافية والسياسية التي طفت على سطح الواقع الأردني طوال عقود، وإن كانت ظاهرة الإسلام السياسي هي الأبرز في الوقت الراهن.

 

 

 

 كما أن المؤلف لم ينتبه خلال إدانته الإسلام السياسي، إلى بروز حركات المقاومة الإسلامية في هذه المرحلة. وهو يعلم أن هنالك فرقاً بين المقاومة والمشروع السياسي.

 

الحجاب في رواية 'ثلج' للأديب التركي أورهان باموق

 

عبدالرزاق القلسي

 

5/4/2010

 

يظل الحجاب محور التفكير الديني والسياسي في المجتمعات الاسلامية مهما كانت درجة حداثتها وأيا كان تأثيرها في التاريخ الاسلامي. فالكلام عنه لا يكاد يخبو حتى يشتعل من جديد بحسب الظروف المحيطة به، وبحسب الآراء التي تصاغ من حوله سواء من قبل الفقهاء والمحافظين والمتدينين، أو من قبل المتحررين والعلمانيين. هو في الأصل موضوع ديني ولكنه يظل في دائرة بحث علماء الاجتماع والسياسة، بل وأمسى موضوعا روائيا تتحرك في فضائه الشخصيات متقاربة من بعضها البعض أو متباعدة عن بعضها البعض بحسب الموقف الايديولوجي منه ومن تأثيره.

 

أمام العودة الكاسحة لمظاهر التدين في المجتمعات العربية واكتساح الحجاب للمشهد الاجتماعي والحضري، يبدو أن التجرؤ عليه بالانتقاد، أو بالتشكيك في شرعيته أو بالتحامل على رمزيته أصبح أمرا غير ممكن أو على الأقل أمرا مكلفا بالنسبة لهؤلاء الذين خرجوا عن الوصاية الفقهية والفهم الكلاسيكي في النظر لبعض مسائل الدين الاسلامي.

 

هناك حركتان نعتقد أنهما لن تتكررا أبدا في هذا الزمن والزمن القادم، حركة المناضلة النسوية المصرية البارزة هدى شعراوي حينما عمدت إلى نزع حجابها على رؤوس الملأ وأمام المجتمع، وحركة الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة - في الخمسينيات من القرن العشرين - حينما دعا امرأة الى نزع غطاء شعرها و'سفسارها' وتكلف هو شخصيا بذلك الأمر أمام عدسات الكاميرا. كلا الحركتين محسوبتان - في تلك الظرفية التاريخية - على تحديث المجتمع و الرفع من مكانة المرأة وتحريرها من الأعراف الاجتماعية السائدة والمكبلة لكيانها، ولذلك حظيتا بنوع من القبول الاجتماعي، وأصبح نزع الحجاب وغطاء الرأس علامة من علامات الثقة بالنفس لدى المرأة ومؤشرا على دخولها إلى الحراك الاجتماعي والفكري والسياسي بعد قرون من الجمود والتهميش.إن نزع الحجاب في ذلك الزمن تعبير رمزي عن خروج المرأة من الفضاء الخاص الى الفضاء العام، و هو خروج لم يؤسس إلى التصادم مع مقولات إسلامية بقدر ما كان ناطقا بالمشروعية التي تبحث عنها المرأة في أن يكون لها وجود اجتماعي وكينونة متمايزة عن كينونة الرجل. هي عملية بحث عن الذات في مجتمعات ناهضة وضمن انتظارات وبشائر التقدم والتنوير التي لطالما حرمت منها بدعوى الزامات الحجاب.

 

نرى الحجاب الآن طال كل الفضاءات وكل أشكال التعبير مثل السينما، المسرح والرواية بل ان تحجب الفنانات يعدّ في حدّ ذاته حدثا جديرا بالتّأمّل والنّظر. وعادة ما يقترن تحجّبها باعتزالها أي عودتها مجدّدا إلى الفضاء الخاصّ وبعد أن تكون قد أوسعت الفضاء العام بكلّ الجرائر والتّهم. هذا الحجاب الذي لم يكن له أي ّوجود يذكر أصبح الآن فاعلا من فواعل الرواية مثلما هو رمز مثير للجدل من رموز الهويّة ومؤشّر على الانتماء السّياسي . وفي الرواية العربية تحديدا لا نقف على شخصيات نسائية محجبة الا لدى الأديب المصري محمد الكيلاني في روايتيه 'عمالقة الشمال' و'عذراء جاكرتا' الصادرتين منذ أكثر من أربعين عاما. وتنتهي الروايتان بنصر المرأة المسلمة، وهذا النصر يتجلى في حدث وحيد هو ارتداؤها للحجاب، والذي يغدو كما لو كان بيانا سياسيا مبشرا بانتصار الاسلام السياسي على غيره من التيارات اليسارية والعلمانية التي كانت سائدة في حقب الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين.

 

إلا أن الوضع أخذ في التغير على مدى العقدين الأخيرين، اذ أصبح الحجاب ظاهرة اجتماعية بعد أن كان ظاهرة استثنائية وأصبحت النساء من كل الفئات العمرية أكثر إقبالا عليه والتزاما به، وغدا مشكلة حقيقية أمام الأنظمة العلمانية التي نهضت أدبياتها على تحرير المرأة من لباسها القديم وإخضاع اللباس إلى آليات التحديث والتجديد أسوة بالمرأة الأوروبية والمرأة بوجه عام في كل أنحاء المعمورة. ولقد بات من المؤكد أن للمرأة المحجبة شخصية وملامح تميزها عن غيرها ويبدو أن مقاومة الحجاب لم تحقق نصرا إذ تأكد للجميع أن هذا الحجاب لا يمكن أن يشكل عائقا أمام المرأة للحضور الاجتماعي خاصة لدى الأسر التي انغرست فيها تقاليد العمل والتعليم والثقافة على نقيض النقاب مثلا، الذي نظر إليه باعتباره لباسا يعزل المرأة عن المجتمع عزلا شديدا، ويجعلها كما لو كانت خيمة سوداء، تتحرك في مجتمع تنعدم فيه أدنى درجات التواصل البصري والاجتماعي بين الرجال والنساء، فضلا على أنه يحرمها من الدخول في أي حراك اجتماعي أو سياسي ويحولها إلى كائن بلا وجه وبلا ملامح، وهو ما لا يصلح لكي تكون شخصية اجتماعية أو إنسانا ذا نفوذ وتأثير، وهو أيضا ما يمنعها من أن تكون شخصية روائية يستوعبها نص روائي. فهامش الحركة أمامها في الواقع وفي الخيال محدود جدا. وعلى الضد من ذلك قد يبدو الحجاب دافعا للمرأة لكي تكون أكثر حضورا في المجتمع وفي التربة وفي العمل وفي المنتديات العامة. انه بهذا المعنى يمكن أن يكون ظاهرة مدينية موصولة بالمدينة وبالحضر فيما النقاب ظاهرة بدوية وصحراوية وجبلية لا يترسخ إلا في المناطق التي يصبح دخول الأفكار الجديدة والمستنيرة فيها أمرا صعبا أو مستحيلا.

 

لكن يبدو أن أكثر ما يقلق القوى العلمانية في العالم الاسلامي ليس الحجاب في حد ذاته، وإنما رمزيته الكثيفة فهو - إلى أمد قريب - يؤشر إلى الانتماء الصريح الى الاسلام السياسي، كما أن صوت المرأة المحجبة هو صوت انتخابي لفائدة الاسلاميين من دون أدنى شك. وقد تضاعف هذا القلق بتحول الحجاب من رمز إلى أيقونة لا تعرف المرأة المسلمة إلا به، فإذا ما كانت الأهرامات هي أيقونة مصر، فان الحجاب هو أيقونة المرأة المسلمة. ان المشروع الاسلامي الأصولي ينهض على تثبيت هذه الوحدة السيميولوجية بشكل نهائي عبر كل الآليات المتاحة كالفتاوى والاستشارات الفقهية والخطب الدينية التي تنهض بها نساء، فيما ينهض المشروع الحداثي على فك الارتباط بين هذين البعدين وتحريك المرأة ضمن مدارات أخرى مثل العمل والعلم والإنتاج وليس فقط ضمن مدارات اللباس والهيئة المظهرية أو مدارات الزواج والإنجاب والأمومة.

 

المرأة المحجبة والشخصية الروائية ذلك هو المناخ الفكري والايديولوجي الذي أنتجته لنا رائعة الروائي التركي الكبير أورهان باموق 'ثلج' الصادرة سنة 2006، والتي تعبر بجماليات العمل الروائي عن هذا الصراع بين القوى العلمانية في المجتمع التركي والمستندة إلى التراث الكمالي وبين القوى الإسلامية الصاعدة في مسألة الحجاب وفي منزلة المرأة في المجتمع على وجه اعم.

 

هذه الرواية تنطلق بحدث غير اعتيادي، غير مفكر فيه في مجتمعات أخرى: هو انتحار أربع فتيات تركيات بسبب الحجاب. يبدو هذا الحدث ملغزا إذ كيف يمكن أن تؤدي هذه القطعة من القماش إلى نوع من التفكير الانتحاري ينشأ في المرأة وضد المرأة في آن؟ ولكن بتقدم الأحداث يستقر التفسير على اتجاه واحد وهو أنهن أجبرن على خلع الحجاب بعد نفاد صبرهن ومقاومتهن فكان الانتقام من أنفسهن ومن المجتمع على هذا النحو: الانتحار. يسميهن الكاتب أو السارد بالفتيات ذات الفولارة لتمييزهن عن غيرهن وبمجرد أن تحضر هذه الجزئية في عملية التوصيف الروائي للشخصية تغدو المشروع السردي الكامل بالنسبة للكاتب الروائي والسارد على حد سواء.

 

فالنساء اللواتي لا يلبسن الحجاب لا تشهد علاقتهن بالسلطة والمجتمع أي توتر من أي نوع ، فالدولة التركية في رواية 'ثلج' تدعم مركزهن فيما تنظر للمحجبات - عبر نموذج شخصية قطيف هانم ـ نظرة لا تخلو من القسوة ومن الرغبة في مقاومة حضورهن بكل الوسائل الممكنة.

 

لقد انطلق المشروع الروائي في 'ثلج' عبر التحقيق الصحافي الذي سعى السيد كاف (وهذا هو اسمه في الرواية) إلى إقامته حول انتحار النساء في إحدى مدن الشمال التركي. وتبدو هذه الشخصية مصنوعة من كل المقومات المعبرة عن تركيا الأوروبية فهو شاعر وصحافي ويتمتع بصلات قوية مع الصحافة الألمانية ومع التنظيمات الكردية والإسلامية المعارضة، وفوق ذلك ينحدر في تربيته من أسرة تركية 'كمالية' عاشقة للقيم العلمانية والجمهورية التي أرساها كمال أتاتورك على أنقاض الخلافة العثمانية. ولكن في ظل هذا الواقع السياسي لاحظ السيد كاف حقيقة أصبحت ملازمة للحراك السياسي التركي في حقبة الثمانينيات مباشرة بعد الثورة الإيرانية وإلى غاية فوز حزب 'رفاه' بأول انتخابات تشريعية وقبل أن تحل الهيئة المنتخبة على أيدي السلطات العسكرية الحاكمة وهي أن 'الرجال يقبلون نحو الدين فيما النساء ينتحرن' (ص. 59)، وفي الآن نفسه لا تكف الدولة عن الترويج لأيديولوجياتها العلمانية عبر المقولة الآتية 'إذا نزعت المرأة حجابها فإنها ستحظى في المجتمع بمكانة أكثر أمنا واحتراما' (ص 73) يصبح الحجاب هاجسا للدولة وللمعارضة الاسلامية وللمجتمع المدني على حد سواء، فالدولة تحاول أن تعزز موقعها في المجتمع وفي القلوب وفي العقول بالدعاية لنموذج المرأة الأوروبية الجميلة والعاملة والمنتجة فيما الأحزاب الاسلامية تقابل هذا الخطاب بخطاب مضاد ينهض في بعض تجلياته على تكفير المرأة التي خلعت حجابها وعلى تقديس المحجبات أيا كانت فضائل الأخريات.

 

من بين كل المحجبات عمد السارد إلى التركيز على اثنتين مثلما تركز عدسة الكاميرا على حدث مركزي بعينه: الأولى محجبة مجهولة منعت من الدخول إلى الجامعة لمواصلة تعليمها. لم تفلح كل الأوامر في حملها على خلع حجابها. صمدت إلى أبعد نقطة ممكنة. وفي الأخير وحينما نفد صبرها وبلغت معها سادية السلطات التركية حدا لا يطاق أخذت فولارتها وشنقت نفسها في مشهد درامي حامل لأكثر من سؤال. يمكن أن نقرأ الحدث كيفما شئنا وبحسب نظرتنا إلى الحجاب. أول القراءات تقول: وما ضرها لو انحنت أمام العاصفة، وقبلت وان على مضض بالأوامر مقابل مواصلة التعلم والظفر بالتنوير؟ أما القراءة الثانية فهي ترى في الحجاب أكثر من رمز وأبعد من أيقونة، انه امتداد لتلك المرأة يرافقها في حلها وترحالها، في قيامها وقعودها، لا يمكن أن تتخيل نفسها من دونه، في المناسبات العامة بل وفي الفضاء الخاص ويولد احتمال نزعه نوعا من الهستيريا أو من الاكتئاب المؤدي الى التفكير في المناطق القصوى للوجود.

 

هذا الحجاب - ضمن القراءة الثانية - امتداد لجسد المرأة ووجهها وشعرها فهو جزء منها تماما مثلما أن الطين جزء من يد النحات، والألوان جزء من يد الرسام. انه في هذا السياق يجسد الركن السادس في الاسلام، لا بل هو في مقام الركن الثاني أو الثالث.

 

ليس له صلة بشرف المرأة الشرقية وعذريتها فحسب بل بروحها ووجودها وكينونتها.

 

ان الروائي التركي الكبير أورهان باموق لا يمتلك فحسب الأدوات الفنية في تشكيل عوالم الشخصيات وإنما يمتلك أيضا القدرة على صياغة تحولاتها الفكرية والإيديولوجية المفاجئة. فما يطبع سلوك بعض الفتيات هو التحجب المفاجئ إذ كن - مثل الفتاة هجران ـ فتيات مقبلات على الحياة ومترنمات بجمالهن، فإذا بهن ومن دون سبب مقنع يضعن الغطاء على شعورهن ويصبحن مدافعات شرسات عن الحجاب بعد أن كن يصفنه باللباس 'القروسطي'. ان ذلك ولا شك يزعج الدولة التي لا تنفك تبحث عن النماذج المضادة لهؤلاء المحجبات. ينبغي الاعتراف بأن العثور على هذه النماذج لم يعد أمرا يسيرا كما كان الأمر في العقود السابقة، ومع ذلك فلا بد من العثور على امرأة مثقفة وجميلة يتهدل شعرها على كتفيها ويتموج مع كل هبة ريح.

 

مع كل امرأة جديدة تتحجب يتولد لدينا الانطباع بأن الدولة تخسر مواقع لفائدة خصومها وخاصة الإسلاميين الذين 'يرتفعون بالحجاب إلى منزلة الراية السياسية للمرأةالمسلمة في الأناضول' ( ص.163)، فالحجاب إذن مسيس، أكثر من الإشارات الأخرى الدالة على الاسلاميين مثل اللحى غير المشذبة، و كذلك خلع الحجاب لا يخلو من تسييس، بل هو في صلب المشروع السياسي والجمهوري الذي نهضت عليه تركيا الحديثة منذ مؤسسها كمال أتاتورك.

 

الخيال الروائي يجعل المرأة تعيش تجربة الحجاب بقدر كبير من الحرية، بل وباعتباره تجربة شخصية لا تنهض على الفتاوى وعلى الالزامات الفقهية وقواعد السلوك في المدونة الفقهية والسلفية، الحنبلية منها بوجه خاص وإنما على تقدير شخصي وعلى وعي نوعي بالحجاب ومكانته في المجتمع وتحديده لنظام العلاقة مع الرجل والتي هي في الغالب علاقة غامضة وسرية ومفتوحة على كل الممكنات وتستمد جماليتها من الصمت ومن الكتمان. ان لباس الحجاب بهذا المعنى هو شكل من ممارسة الحرية الشخصية ولكن هذا الشكل لا يتسنى له الظهور إلا في مجتمع ديمقراطي يقر بالاختلاف وبتعدد المذاهب. ان المجتمعات الشرقية ـ ومن بينها المجتمع التركي - لم تصل بعد الى هذا المستوى من الوعي اذ أنه يرحب بالمحجبة الجديدة كما لو أنها دخلت الى الاسلام حديثا فيما ينظر إلى غير المحجّبة نظرة موسومة باللّوم والانتقاد.

 

أمّا الدّولة فإنّها تنظر بعين الرّيبة إلى المحجّبات خاصة أنّ البيت الذي تؤسسه قد يكون فضاء لتربية الأطفال على قيم الكراهيّة للدّولة العلمانيّة وأدلجتهم في اتجاه أكثر راديكاليّة وتطرّفا.

 

في رواية 'ثلج' تتحرّك الشّخوص النّسائيّة بحريّة في مجتمع شرقيّ يشتدّ فيه الصّراع بين القوى الجمهورية والعلمانيّة وبين القوى الإسلاميّة الصاّعدة حول اكتساب موقع المرأة. المرأة هي 'ساحة حرب' بين هاتين القوّتين. وتضع الحرب أوزارها بظفر إحداهما بعقلها وقلبها وأيضا وقبل ذلك، بلباسها.

 

ليست المرأة هي نقطة التبئير الوحيدة في النّظام السّردي والرّوائي فحسب من لدن القوى المذكورة وإنّما أيضا الأسرة أصبحت هي بدورها مركزا للتّجاذبات وللصراعات الإيدولوجيّة العاصفة فأسرة درغوث باي تعدّ نموذجا للأسر التّركيّة والعربيّة التي تزدحم فيها الأفكار المتعارضة: فالأب مناضل شيوعي قديم أمّا ابنتاه، قطيف فهي تجسّد نموذج فتاة الإسلام السّياسي، وسيكون لها دور حاسم في بنية الرّواية كلّها سنوضّحه فيما بعد، أمّا أختها إيبك فإنّها تعبّر عن الفتاة التّركيّة الحديثة المثقّفة والعاشقة للسيّد كاف بل وتقبل معه علاقات جسديّة ضمن شروط تحدّدها هي. ففي هذه الأسرة تتعايش ثلاث أيديولوجيات يصعب أن تجتمع في فضاء خاص واحد: الشّيوعيّة، الإسلام السّياسي، والليبراليّة الأوروبّية. وتكمن عبقريّة باموق في أنّه لم ينحز إلى أيّ واحدة منها، وهو ما جعل الحواريّة في روايته ذات مستوى عال جدّا يندر مثله في المتن الرّوائي العربي.

 

الدّولة أيضا تحشر أنفها في الأسرة ويبدو أنّها تستلهم من التّراث الكماليّ العريق ما به تدعم الرّوح الحديثة في تكوّن الأسر الّتركيّة. وفي رواية 'ثلج' تبدو أسرة سنان الزّعيم وزوجته فوندا آزر نموذجا للأسرة التّركيّة الحديثة فهما يشكّلان زوجا فنيّا ناجحا في الحياة وفي المسرح، وفكرهما قد تشرّب بالتّقاليد الكماليّة الأصيلة التي تبدأ باللّباس الأوروبي وتنتهي بالإيتيكيت الاجتماعي وهذه الأسرة هي التي تدافع عن الجمهوريّة التّركيّة الحديثة ولأجل ذلك منح هذا الرجل ثلاثة أدوار خطيرة واحد منها سيكلفه حياته: كان له شرف تجسيد شخصية كمال أتاتورك على خشبة المسرح، وهذا الدور يعد بمقاييس المجتمع التركي اعتراف الدولة به وبفنه ما بعده اعتراف. أما الدور الثاني فهو تفكيره في تجسيد النبوة بأسلوب مسرحي وهو ما ألّب ضدّه الرأي العام. أما الدور الثالث فهو تمثيله لمسرحية كتبها هو شخصيا وسيدعو في إحدى فصولها المحجبة قطيف إلى خلع حجابها أمام الجمهور الحاضر وأمام الشعب التركي المتابع للمسرحية على الهواء مباشرة على التلفيزيون، وهذا الخلع للحجاب سيكون في إطار صفقة سياسية خفية بموجبها تفوز الدولة بصورة شعر قطيف وهو يستعيد ألقه وحريته مقابل العفو عن ملاحقة أبرز معارض سياسي إسلامي كانت قطيف تكنّ له مشاعر خاصّة.

 

ان هذه الصفقة ستمثّل الأسّ البنيوي الذي ستنهض عليه الرواية ككلّ والأسّ الايديولوجي الذي يعبّر عن ذروة الصراع بين الكماليين وبين الإسلاميين في تركيا ما قبل حزب العدالة والتنمية وما بعد الانقلاب العسكري الذي حدث في أوائل التسعينيات.

 

 

في الصمت وفي الكلام

 

 

تنهض بنية العمل الروائي في ' ثلج' لأورهان باموق على حوارية بين الأصوات لا تناظرها - في حدود اطلاعنا على المتن الروائي - سوى حوارية دستويفسكي في رائعته 'الأخوة كرامزوف'، حيث تنطوي تقنية تعدّد الأصوات على معنى تصالب الايديولوجيات ومواجهتها بعضها لبعض ضمن سنّة التعايش والصراع. وفي هذه الرواية يمنح باموق المرأة المحجبة المساحة اللازمة لكي تتحدّث. هي إذن عبر - نموذج قطيف يلدز هانم - صورة لآلاف النساء ممّن اتين الى الحجاب بعد أن تشرّبن بالقيم العلمانية في المدارس والكلّيات. فأمهاتهنّ كنّ - كلهنّ تقريبا - غير محجبات. ولكّن العودة الكاسحة للتديّن قد غيّر المشهد برمّته فأصبحن يرين في الحجاب رمزا لمقاومة العلمنة ورسالة للتعبير عن الخصوصية ازاء الغرب والنساء المتغرّبات. هناك وعي خفيّ في انّهنّ يمارسن - عبر الحجاب - السياسة. فالتحجب هو بلسانها 'حدث اسلاموي موجّه ضدّ الدّولة' (ص.170) وبالإضافة الى ذلك فإنّ هناك طريق اللاّعودة أي إلى خلع الحجاب مهما كانت الضغوطات التي ستمارس عليهنّ في العمل وفي الكلية وفي المجتمع.

 

انّ حرفيّة أورهان باموق العالية في الصّنعة الروائيّة قد جعلت روايته مساحة مثلى لممارسة الدّيمقراطيّة في مستوى حرّية التّفكير والتّعبير في آن. فللمحجّبات خطابهنّ الذي امتدّ على عشرات الصّفحات مثلما أنّ لدعاة العلمانية الحضور البارز والمتوازن في صلب العمل الرّوائيّ، وكلا الخطابين يتطوّران بحسب تطوّر الصراع وليس وفق رؤية أكاديميّة للحجاب. غير أن ّما يمكن استنتاجه يتمثّل في أنّ باموق قد منح الخطاب للمحجّبات المقتنعات بالحجاب ولكن أيضا لمن هنّ أقلّ اقتناعا، فقط ارتدينه لأنّهنّ لم يعدن يملكن حرّية اللباس أمام المدّ الاسلامي المتصاعد ودخول التشادور الايراني على خطّ الموضة المنمّطة والفقيرة الأفكار المفروضة على المرأة المسلمة.

 

وتجسّد هند، وهي الفتاة الجامعيّة، هذا النموذج، فهي لظروف ما غطّت شعرها أسوة بمئات الطالبات ولكنّها لاحظت أنّ هذا الحجاب يقاوم ويقهر في المرأة أعزّ ما تملك وهي أنوثتها فهي قد لا تصبح موضوعا للرغبة من جانب الرّجل ما يخلق تعقيدات نفسيّة رهيبة، كما يتولّد في نفسها شعور بالخوف من هذا الرّجل الذي يبدو أن التربية والأخلاق الفاضلة غريبة عنه. فبالحجاب وبالحجاب فحسب يمكن أن تأمن شرّه وشرّ نزواته. ولأجل ذلك أصبح التفكير في خلعه حدثا شخصيّا عظيم الأهمية أحاطه الروائيّ بكلّ ما يقتضيه من وصف وتحليل. انّ هذه الخطوة - في مجتمع غير ديمقراطيّ - تبدو من الصعوبة بمكان، بل هي خطوة تتطلّب جسارة هدى شعراوي وإقدامها على خلق حالة اختراق في جسد المجتمع ككلّ..مع تأكيدنا على القياس الناقص بين الحالتين.

 

خلع الحجاب يجب أن يكون ضمن طقوس جماعية كما كان الأمر في ارتدائه. فالحالات الفرديّة مهمّة ولا شكّ بالنسبة للدولة التركية ولتراثها الكمالي والحداثي، ولكنّ للضّغط الجماعي سحره ومفعوله المباشر. وقد أدركت الدولة ما للمسرح من تأثيرعميق في نشر القيم العلمانية والمثل الجمهوريّة ولأجل ذلك لم تكفّ منذ الثّلاثينيات عن نقد الحجاب نقدا لاذعا عبر مسرحيات تنتهي كلّها برمي العباءة أرضا أو بإحراقها أو بتمزيقها إيذانا بتحرّر المرأة وبوضعها ضمن جدليّة 'الوطن أو الحجاب' (ص.217 ).

 

إن النظام العلماني يحاول جاهدا في موفى الألفية الثانية استعادة تلك اللحظة بكلّ الوسائل الممكنة وبكلّ الآليات المتاحة عدا القوّة المادّية لأنّ 'مجرّد التفكير في نزع الحجاب بقوة الدولة كما كان الأمر في بداية الجمهورية الكمالية لم يعد يخطر ببال أحد، فأقصى ما تفكّر فيه الدّولة ألاّ يقع إجبار النساء على التحجّب بالقوّة أو بالعنف كما يحدث في إيران بعد الثورة' (ص.217) ولأجل ذلك كان البحث عن النموذج المتكلّم للمحجبات عمليّة مرهقة للدولة ولأنصارها من العلمانيين.

 

انّ ما تبحث عنه الدولة أن يكون خلع الحجاب في المسرح من قبل فتاة محترمة، محافظة وذات عراقة اجتماعية ونسب يمتدّ الى النسب العثماني الأصيل، لا أن تكون راقصة أو سكّيرة أو عاهرة مجهولة النسب هي التي تقوم بهذا الدّور الخطير.

 

والواقع انّ المتغيّر الكبير الذي سيحسب له ألف حساب هو أنّ للحجاب لسانا لم يكن له في العقود السابقة بعد أن وجد في الاسلام السياسي نصيرا قويا له ومدافعا شرسا عنه. ففي رواية 'ثلج' يدخل الإسلاميون المسرح، وليس من عادتهم الدخول الى مثل هذه الفضاءات، فقط لإدانة مشهد خلع الممثلة التركية للحجاب الأسود ثم نعتها بكل صفات الكفر والفجور والعلمانية.

 

هناك مشهد في الرواية ناطق بحدّة الصراع بين الرافضين للحجاب وبين المدافعين عنه وهو ينهض على حركتين، الأولى على لسان ممثلة تقول 'لماذا تخلّيت عن الحجاب الأسود...و لماذا تهفو نفسي الى أوروبا حيث الشعوب المتحضّرة والحديثة...متحرّرة من هذا الوشاح، وهذه الفولارة، هذه قطعة القماش رمز التخلّف الذي تسودّ به أرواحنا'، ويكون ردّ الجمهور الحاضر وأكثرهم من الشّباب الملتحي 'وما ذا تنتظرين أنت الآن؟ فلتجري نحو أوروبا من الآن عارية، نعم عارية كما ولدتك أمّك' (ص.223 ).

 

في العقود السابقة كان الجمهورمن طينة واحدة، الآن أصبح الجمهور منقسما إلى فئتين أو حزبين:

 

العلمانيون من جهة والإسلاميون من جهة ثانية، ومدار الصراع بينهم سيكون حول شعر الطالبة قطيف هانم وسيتخذ هذا الصراع أبعادا إيديولوجية تبدأ بالحوار وتبادل الرأي في الحرم الجامعي، وفي المنتديات وتنتهي بالعنف والدماء، هذا الصراع لا يمكن - مع الأسف - أن يكون ديمقراطيا لا من جهة السلطة، ولا من جهة المعارضة الإسلاميّة فأدبيّة السلطة لا تكفّ ترى في الحجاب رمزا للماضوية وحاجزا يمنعها من التقارب مع أوروبا فيما الأدبيّات الإسلاميّة لا تكفّ تقرن الحجاب بالشّرف وبالأمومة وترى في كشف الشّعر الكفر البواح.

 

يبدو المسرح كفضاء فكريّ وتربوي المكان الملائم للتبشير بالقيم العلمانيّة والحداثيّة، والحكومات التّركيّة في رواية ' ثلج'تدرك أنّ صلة الإسلاميين بالفنون صلة تكاد تكون معدومة، إذ لا وجود للفنون في تفكيرهم وعلاقتهم بالفن ويبدو أنّهم لا يعترفون بقيمة التربية الجمالية في تكوين الفرد والأمّة، ولأجل ذلك وبسببه تسود صورة نمطيّة للإسلاميين كونهم دائما متجهّمين ولا تعلو الابتسامة محيّاهم فيما الابتسامة محرّمة أو تكاد لدى المحجبات اللاتي هن مطالـَبات بأقصى درجات الانضباط والجدّية في التعاطي مع الآخرين والأخريات في الفضاء العام.

 

الدولة التركية ستختار مكان الصراع مع الاسلام السياسي، أي المسرح حتّى يكون الفضاء الذي يشهد إخراجا مسرحيا محترفا ومبرمجا لأهم حدث في الرواية: حدث خلع الآنسة قطيف هانم للحجاب وإلقائه أرضا. هذا الحدث يبدو حقّا مخيفا لكل الأطراف خاصة اذا ما خرجت حيثيّاته عن السيطرة ومع ذلك فانّه بالنسبة للدولة يعدّ نصرا ما بعده نصر. ففي تلك الليلة انتظمت عقدة القصّ في حدث هو روح الرواية: خلع قطيف للحجاب مقابل الكفّ عن ملاحقة الزعيم السياسي لكل التنظيمات الاسلامية الأصولية. في لحظة من اللحظات الدرامية القصوى الواقعة على تخوم المنطقة التي يتقاطع فيها المسرح مع الحياة، النّشاط الفنّي مع الالتزام السّياسي، الموقف الايديولوجي المرن مع الموقف السّياسي البراغماتي ستتجلّى لنا الآنسة قطيف على خشبة المسرح من دون حجاب أمام الأمة التركية قاطبة، مقايضة شعرها بإنقاذ حياة حبيبها.

 

هذا الاتفاق يحصل بين أطراف المجتمع الواحد تتعايش فوق وطن واحد عريق وذي حضارة ألفية ولكنّها تنظر إلى بعضها البعض نظرة الشكّ والريبة. وحينما تسود هذه النظرة، تصبح العلاقات مشرعة على خيار واحد، هو خيار العنف وبالفعل سيتحوّل هذا المشهد الدرامي - السياسي الى نقطة تفجير لأقصى العنف بين رموز أطياف الشعب الواحد حيث ستخلّ الدولة بالاتفاق بأن تقتل الزعيم الاسلامي وتتراجع قطيف عن خلع حجابها، بل وتقتل الممثل الذي أدّت معه الدّور وتنتهي المسرحيّة على مشهد دموي من العنف والصراخ والفوضى يؤشّر إلى طبيعة المشهد السياسي في تركيا في العقد الأخير من الألفية الثانية.

 

ان الشخصيات في رواية 'ثلج' كلها كائنات سياسية وعلاقاتها بعضها ببعض محكومة بالبعد السياسي. فالشخصيات الاسلامية ليست شخصيات دعوية بل هي تمارس تنظيم الفعل السياسي. والشخصيات الكمالية تسعى إلى الحفاظ على مواقعها باعتبار أنّ في ذلك حفاظا على الدولة وتأكيدا على 'تحضّر' الشعب التركي فيما لا تكـفّ بقيّة الشخصيات عن البحث عن ذاتها في ذروة الصراع الايديولوجي الذي اتّخذ من الحجاب وفي الحجاب عنوانا له.

 

والواقع أنّ فرادة هذه الرّواية تكمن أيضا في هذه الاقتدارات الفكرية الفائقة التي اتصف بها أورهان باموق والتي تذكّرنا بالكاتب الروائي الخالد الذكر نجيب محفوظ ، فروايته فضاء تلتقي فيه الأفكار الكبرى والرّؤى المتعارضة. هي، بهذا المعنى، نصّ أو بيان ديمقراطيّ لكلّ من يهمّه الأمر: للإسلاميين، للماركسيين القدامى، للحداثيين، للمحجبات وللمستنيرات على حدّ سواء.

 

 

الرواية فضاء ديمقراطيّ

 

 

اننا نعتقد أنّ أورهان باموق - وهو يكتب رواية 'ثلج' ـ لا بدّ أن يكون قارئا ممتازا للرّوائي الروسي 'دستويفسكي'. فالخيال الروائي قد سمح بما لم يسمح به الواقع أو يسمح به الإعلام. لقد سمح بأن تلتقي الايديولوجيات وتتحاور من دون تحديد سقف لحريتها. ان الرواية - في هذا المعنى - أكثر تعقّلا من الواقع وأكثر حلما بالزمن الديمقراطي الذي - فيما يبدو - ستنعم به تركيا قريبا. لقد منح باموق للاسلام السياسي كل المجال اللساني والفكري للتعبير عن نفسه. فهناك صفحات يتوقّف فيها السّرد والوصف ليحلّ محلّهما الخطاب السياسي الاسلامي بكلّ قوّته وعنفوانه وبكلّ طموحاته في تغيير العالم وفق الرّؤية الاسلامية للحياة وللمرأة. وهذه الرّؤية مطبوعة في الغالب بنوع من الحنبلية التي لا يتّسع أفقها لاحتواء المخالف وللضدّ وللهامشيّ في كلّ الموضوعات وخاصّة في موضوع حجاب المرأة. هناك راديكالية توصف بها التنظيمات الاسلامية وهو ما يجعلها - وهي تبلغ صوتها وخطابها - تبدو كما لو كانت تحاور نفسها في مونولوغ لا نهائيّ.

 

ففي حديثه مع السيد كاف الذي هو الشخصية الرئيسية، يبدو الزعيم الاسلامي كما لو كان يحيا في جزيرة معزولة لا تقبل التأثير. وهو لا يستحضر العلمانيين إلا في أشنع صورة ممكنة والمبنية على ثوابت ثلاثة وهي الإلحاد والتغريب ونفي الحجاب. الآخر بالضرورة تغريبي، يضمر الشرّ للإسلام ويخطّط لكشف شعر المرأة المسلمة فليس هناك قيم مشتركة ممكنة تمثّل فضاء للفعل الثّنائي إلا أنّ الرّوائي التركي الشّهير قد قدم هذه التنظيمات الاسلامية وهي تشتغل تحت الأرض فهي ممنوعة من العمل العلني وتصدر صحفا وبيانات سرّية رغم الثّقل التنظيمي والسّياسي الذي تحظى به في المجتمع وفي الجامعات العلميّة بوجه خاصّ.

 

والواقع أنّ الاسلام السياسي ليس هو فحسب الممارسة الدينية الوحيدة في تركيا، بل انّ الدولة التركية تسعى إلى إحياء الاسلام الصوفي في التكايا والمساجد والأضرحة مستلهمة من التراث العثماني العريق ما يعزّز حضورها في أكثر المواقع تديّنا. وقد كان الشّيخ صفيّ الدّين في رواية 'ثلج' نموذجا لهذه المدرسة في التدين. إن المؤكّد أنّ الدولة تنتصر وتنحاز لحلقات الصوفية باعتبار أنّ التصوّف حركة غير سياسية. ويبدو أنّه في تركيا يوفر أجواء روحية خالصة ويلبّي في المجتمع التركي والمشرقي حاجته وأشواقه نحو الماوراء. وإذا ما كانت علاقة الدولة العلمانية بالحلقات الصوفية قوية ومتينة، فان علاقة التنظيمات الاسلامية بها معدومة. فأحد الطّرفين قد أصدر حكمه على الآخر.

 

إن ما نستوحيه في رواية ' ثلج' أنّ الاسلام واحد ومتعدّد وهذا ما يفسّر في تقديرنا حيويته البالغة في المجتمعات الشرقية الاّ أنّ المتغيّرات السياسية قد منحته أفقا جديدا. فالإسلام هو بامتياز دين موصول بالشأن السياسي ومنخرط الى أبعد الحدود في السجال من أجل السلطة والمجتمع والمرأة. ان ما يشير اليه باموق يتمثل في خطورة ألاّ يستوعب العقد الاجتماعي تلك التنظيمات الاسلامية وأن تظلّ تعمل تحت الأرض فإلزامها بالعقد الاجتماعي هو تجريدها مما توصف به أي من العنف ومن الاحتجاج ومن التكفير. إننا نرى أنّ موجة التدين قد عمّت الفضاء الاسلامي والفضاء المسيحي على حدّ سواء. وأصبحت له أشكال مظهرية لا تخطئها العين ويمكن اعتبار الحجاب المظهر الأقوى والمنمّط بالنسبة للمرأة. ويبدو لنا أنّ باموق لم يشر إلى أيّ تحامل او انتقاد له بل قدم الأفكار المناصرة والمعارضة له في سجال على امتداد الرواية كلها ولكن يستوقفنا موقف إحدى الشخصيات وهو درغوث باي أبو قطيف وهو ماركسي قديم بقوله 'إننا بحاجة إلى تدين مرن ومعتدل'. هو الاسلام المعتدل، سواء لبست المرأة الحجاب أم لم تلبس، التحى الشباب ام لم يلتحوا. و قد سعى هذا الأب إلى ممارسة هذا الاعتدال في بيته ومع بناته رغم الاختلاف بينهم.

 

وصفوة القول أنّ هذه الرواية لا تحيل فحسب إلى ظاهرة الحجاب في التسعينيات فحسب وإنما الى مستقبلها في المشهد الحضري والاجتماعي. هناك وزير مثقف قال إن النساء غير المحجبات لما كن يملأن الفضاء الاجتماعي، كنّ كالورود المفتّحة. ونعتقد أنه لو واصل كلامه لقال: إنهن الآن كالورود التي لا تنفذ اليها أشعة الشمس. لقد أثار كلامه موجة من المعارضة لم تخب بسهولة، فيما يرى آخرون أن للحجاب جماليته التي لا يمكن إنكارها. وقد يكون أضفى على المرأة ملمحا جديدا.

 

يبدو أنّ الحجاب سيواصل اكتساحه لشعر المرأة وإن بإيقاعات مختلفة. أمّا غير المحجبات فقد يصبحن في مجتمعاتنا أقلّيات، وربّما أقلّيات مضطهدة من قبل المجتمع ومن قبل المحجبات كما كانت المحجبات مضطهدات قبل عقدين أو ثلاثة. النساء اللاتي يتمسكن بحقهن في عدم الالتزام به يتبوّأن مناصب رفيعة في المجتمع وهنّ ينتمين إلى النخب المميزة مما يجعلهن صامدات أمام الانتقاد والمحاصرة من النساء قبل الرجال. إنهن يصبحن متفردات في زمن يعمّ فيه التّماثل. ومن يدري فقد يأتي المثل الحسن منهنّ.

 

صفاقس - تونس

 

Kolsi_abk@yahoo.fr

 


 

«ستون عاماً» لسلمان ناطور.. تداخل أجناس السرد

 

د.حسين جمعة

 

 أسلم ما أفتتح به تقدير شعرية هذه الرواية، وكشف أركان معمارها وسَجْف بنائها، ما جاء في مستهل أحد مكوناتها الثلاثة، وهو "سَفَر على سفر"، للتأشير على جنس هذا المولود الغريب التائه.. المضيَّع وسط لداته وأقرانه.ليس في هذا السفر ما يثير الدهشة، وليس فيه ما يعلم عن مكان قديم أو جديد.ليس سيرة وليس مسيرة وليس رواية وليس أدب الرحلة والترحال.ليس وصفاً لعبقرية المكان وليس مرحلة ولا قضية.ليس فيه ما يلفت النظر وليس حداثة ولا شعراً.ليس فيه جديد وليس جديداً.ليس عن الفلسطيني المشرد، ولا عن الفلسطيني الباقي في وطنه.ليس عن الإنسان.ليس عن المكان ولا عن المنفى ولا عن الوطن.ليس عنّي وليس عنكم.هو نصّ لعلامات السؤال وعلامات التعجب.هو المكان الفلسطيني بلا حدود، والزمان الفلسطيني بلا بداية ولا نهاية.هو الإنسان الفلسطيني بلا مكان ولا وطن ولا زمن ولا أمل ولا حلم.هو اللامكان واللازمان واللا أرض واللاسماء.هو نفي مطلق وهو فكرة مجردة وهو لا شيء.تماماً لا شيء.وهنا تبدأ الحكاية.

 

***

 

واقع مشظى وحياة بائسة يائسة فيها من المنغصات ما تنوء عن حمله الجبال، ويقهر أعتى الرجال ويطحن أشد العتاة. هذا الواقع المرّ المائج المضطرب الحزين لا يرتاح في حضن لون أدبي محدد، أو جنس فني جامد. إنه يشق طريقه بعناد، لكن ببساطة وكبرياء، إلى إفراز ضرب مطابق لعمق المأساة ولهيب أوراها، ورعود مسبباتها وتجلياتها. هذا اللون لا بد أن يكون ذا طابع تشطيري تهشيمي، وروح تفجيرية حارقة تستوي ومسار الغاشية التي أحاقت بإنسان وطن قريب بعيد، فأصابته بحالات من الذهول والشرود، وأدمت باصرته وبصيرته، وسعت إلى إخراجه من التاريخ عنوة، إلا أنها أخفقت في مسح ذاكرته وإتلاف مدخراتها، لأن الماضي يعيش في داخله ومن حوله، وهو مدون ومطبوع في تلافيف الذاكرة، ومصفوفات الثقافة المادية والروحية. فأبو محمد الذي يعود من مخيم جنين إلى «خربة أبو حرب» بعد عشرين عاماً من الهزيمة والتشرد، ما تزال ذاكرته تحتفظ بأدق تفاصيل الأمكنة، وكأنها وشوم مرسومة بأناة وإحكام لا تمحوها الأيام والسنين، وحال من بقي متمسكاً بتراب وطنه ليس بعيداً عن هموم من غادره، إذ يعيش حياة مزدوجة في وطنه، فاقداً أرضه وحريته في تسيير شؤون حياته، وامتلاك إرادته والتخطيط لمستقبله. هذه الأجواء المجدبة والطقوس المفجعة والكوابح القاصمة، حيث "الطريق إلى الموت هي الطريق نفسها إلى الحياة" تتأبى أن ترضخ لمؤشر واحد أو تؤطر في منظومة مغلقة، أو جنس أدبي أصم. إنها تدق الجدران للانفلات والانطلاق إلى تدشين عوالم سردية متداخلة، واستدراج حيل حكائية غزيرة، واستئناس توليفات قصصية منفردة، لكن متضامّة ومتضامنة مضموناً وقصداً لاستباحة بواطن الشخوص، الذين نبتوا من هشيم الحياة وتنافراتها مع ذواتهم ومحيطهم، تتكفل باستقراء الاختبارات السيكولوجية والمغامرات الكارثية الفريدة التي غرقوا في بحرها الشاسع، وتحيط بسيل الوقائع الجسام غير المترابطة لكنها من حيث السياق والنفَس مزحومة بالأحداث القصصية الحادة.سِفْر العذاب والتشريد والإبادة الجماعية التي تعرض لها وما يزال الشعب الفلسطيني في الداخل والمهجر، وضرورة فضح الممارسات الصهيونية الشاذة، ورفع الستار عما يقترفه هذا العدو الغادر المغتصب من أفعال شنيعة، وما حاق بالشعب الفلسطيني من نكبات وويلات أيقظت الوعي الذاتي بالمصيبة، واستفزت المؤلف إلى استلهام مسلسل الجرائم النكراء، ودفعته إلى ترجمة مشاهداته العيانية الظاهرة إلى مادة للتعبير والسرد القلق الذي عززه بصور من الحياة اليومية والمعيشية، وأغناه من لطائف لغة الشعب وثقافته وبساطة تعبيراته وألفاظه، وذلك لإظهار مقصده وإبلاغ توجهاته الفكرية والفنية إلى المتلقي.اجتبى المؤلف في موازاة الحاقة التي أناخت على كواهل الشعب الفلسطيني ووطنه، وفتتت أواصر نَسيجه الوطني، وشتتت شمله ومزقت أوصاله، الجنس الأدبي المكافئ لهذه المأساة غير المألوفة ليقتنص أبلغ مؤشراتها وعلاماتها المميزة، ويظهرها أمام مرآة المتلقي؛ ليتعرف على مدى الظلم والهوان والإذلال واستباحة الحياة في ظل تحكم العصابات الصهيونية بالأرض والإنسان والماء والهواء في فلسطين التاريخية، ومحْقها هويةَ شعب كامل.الأدب منظومة من الأجناس المتجايلة والمتعاقبة، والجنس الأدبي الذي في مِكْنته أن يظفر بشيء من فيض مأساة الفلسطيني، هو بلا ريب الرواية.. الرواية بصفتها الفن الفريد الذي لم تكتمل صورته النهائية، وما يزال مفتوحاً ولم يؤطر في ثوابت جاهزة، ولم يستقر ويسكن في مساحة محدّدة، إنه: «في طبيعته غير مقنّن.. إنه في بحث دائم يتقصى ذاته دوماً، ويعيد تكييف ما ابتُدع من أشكال» كما يرى ميخائيل باختين."ستون عاماً، رحلة الصحراء" رواية تطوف في فضاء شاسع من ضروب السرد، معلنةً محو الفواصل والحدود ما بين الأدب والواقع، وهي بذلك تتخذ لها مقاماً محدداً في نطاق الجنس الروائي، هو الرواية الواقعية. ويبدو أن المؤلف اصطفى هذا اللون من الرواية، لأن معيار الجنس في الشعرية الواقعية يجري إعادة استيعائه وتقييمه باستمرار، حيث أن منظومته في بحث دائم عن ضروب وأشكال متحركة ومتغيرة.. متجددة ومتطورة بثبات، لتواكب مجرى الواقع المتبدل.من هنا كان لجوء الكاتب إلى السلسلة القصصية التي تتداخل في نَظْمها قصص وسرديات متباينة، تندمج عضوياً في وحدة موحدة ذات مقصد تعميمي واحد، والعودة أحياناً إلى استخدام حلقة السرد المكثف القصير لكشف غرض فني يفترق عما سبقه لأداء مهمة محددة. وهذه الوسيلة في بناء الرواية على هذه الشاكلة استبانتها الأهلية الجمالية لهذا المعمار، الذي يشكل عنصراً أساسياً في إنجاز الشكل الداخلي والخارجي للعمل الفني، ويحقق ما يصبو إليه المؤلف من مقاصد وأهداف، ويوسع دائرة اقتناص الخامة اللازمة لجلاء مكنونات الواقع المأساوي الذي يرزح في ظلاله الإنسان الفلسطيني.تسلسل أجناس السرود القصيرة، هو الحلقة الضرورية على طريق توليف الحكايات والمشاهد واللقطات الصحفية الفيزيولوجية لبناء شكل جديد في السرد الروائي، يفترق عن السرد القائم على الوصف أو المغامرة أو الارتكاز على التحقيقات البوليسية أو الوثائقية، وهو بذلك يغطي العديد من الثغرات في الوظيفة الجمالية والفنية، وهذا البناء ملائم جداً لغايات المؤلف واستكشاف نواياه ومقاصده.تدشين هذا الأثر الفني بهذا الأسلوب الذي تلتقي فيه شتى وسائل السرد، التي اجتباها المؤلف وتمثَّلها في دمج سلس وانسجام ليّن غير عادي لهز ذاكرة الفلسطيني وإرواء تعطشه لاستيعاء واقعه المهين، حيث تتعالق العناصر الملحمية، وتتشابك مع العناصر الغنائية مشكلة سيمفونية الحياة اليومية للإنسان الفلسطيني المضيّع وراء الحدود، أو الرابض تحت أقدام الصهاينة الغزاة، لكنه رغم المصائب الجسام ما يزال مستيقناً من وجوده الفعال، لأنه يحتج ويثور ولو على حاله ونفسه، إذ لم تفتر همته ولم يستنم لمصيره الفتاك الماحق لهويته وعلائم شخصيته… أي أنه لم يفقد الذاكرة رغم زعزعة الوجود: «ستأكلنا الضباع إذا بقينا بلا ذاكرةٍ»، والشيخ «المشقق الوجه الذي ترتعش أنامله، لكنه لم يفقد الذاكرة»، يعي «عبثية حسابات الولادة والتاريخ، لأنها عبثية إلى حدود الجنون والموت». هذا التدافع المشوش والحراك العابث لا نلمسه حسب، وإنما نعايشه ونعانيه في قصص متنوعة وحكايا متشعبة وبائسة لأناس عاديين، اجتثت منهم نسائم الحياة، وفي روايات مثيرة وأحداث جسام ومشاهدات حزينة لأصحاب الأرض التي اختُطفت منهم لصالح عتاة الصهاينة الأوغاد. وهنا حضر الراصد وهو يتنزى حقداً وغضباً كالمرجل المصمَت ليزيل الستائر عن وحشية هؤلاء الوالغين في القتل واستعباد الآخر، إلى جانب امتلاكه عيناً ثاقبة ومولعة بالتقاط المتشابهات والمتناظرات كما المتضادات والمتصاديات، حضر كسارد متجول يذكّر ببطل المقامات، يحكي قصصاً مدهشة وعامرة بالمتناقضات في مصادرها وطبيعتها، وهو مليء بالحيوية وعناصر الحياة الحرة، وزاخر بالمعرفة والمعطيات المتنوعة والمهيجة للنفوس الحرة الأبية، التي لا تتقبل المظالم وإزاحة الآخر ليس من التاريخ حسب، وإنما من الوجود أيضاً.رحلات المؤلف وجولاته من خلال تعدد الشخوص، وتنوع همومها ومصائبها، وإلقاء الأضواء على طرق تفكيرها ومآلات مصائرها، والتركيز على معاناتها ومكابراتها رغم اشتداد الطغيان الذي يكبل أحلامها في حياة بسيطة، ووسائل عيش ضئيلة سنحت جمهرتها له بالوقوف على الأحداث المأساوية المتعاظمة التي يعيشها شعب كامل يرزح تحت عبء الاحتلال وشراسته، وأظهرت خيوط ارتباط الإنسان الفلسطيني بأرضه وتراب وطنه، حيث ولد وترعرع وعاش وسيموت في ظل أكنافها مهما كان الثمن غالياً. مأساوية الوقائع المتكاثرة والأحداث الدامية التي يتعرض لها شعب فلسطين لا يمكن حصرها وتصنيفها وتسجيلها في تقاويم، كما هو شأن تبدل الفصول ودوران الأرض حول الشمس، ووصف الظواهر الطبيعية والكونية. إنها تحتاج إلى إدراك تاريخي واع، يندغم في النسيج الفني ويصبح جزءاً لا يتجزأ منه، فتاريخية السرد تعزز البداية التحليلية في النص، وتشكل ضمانة لكلية تلقي العالم، والاقتراب من الأحداث الفنية/ الفكرية لترسيخ الإحساس برائحة الزمن وهباته، وجلاء الجو العام ونفسية الشخوص، وإيراد معيارية الأخلاق والأعراف القائمة، وتباين سبل العيش والمعيش لاستكشاف الحقيقة، وبلوغ التركيبة الروحية للناس، وإزاحة الغطاء عن ملامح المضمون التاريخي الملموس للأحداث والملابسات السياسية والاجتماعية، وإعادة مراجعتها وتقييمها من جديد.توخى المؤلف في سياحته الشمولية في مسامات الفلسطيني عدم الاقتصار على المراجع التاريخية وسجلات الصحافة والعواطف النبيلة، وعمد إلى التوغل في مدارج حياة مَنْ عاصر الحدث، وما تزال ذكرياته ناصعة لم تذبل بعد، وسعى إلى استيعاء كل ما له صلة بهذه الوقائع المؤلمة واستقرائها من موقع المدرك لمحمولاتها ومدلولاتها، واستنتاج جوهرها من مراراتها وعلقهما. هذا العمل له منطوقة المخصوص ومنطقه الخاص، إذ إنه يفسح المجال لتأويل جدلية الحرية والضرورة في العملية الإبداعية، فرغم أن المؤلف يؤشر إلى طبائع الشخوص ونفسياتها ومسالكها وأحوالها، إلا أن هذا التأشير لا يترافق وسير الأحداث ومتغيرات السياق وتطوره، وإنما ينبع من تجسيد سنن الواقع الموضوعي المستقل، وحرية اختيار المؤلف لسياقات عدّة ملموسة تتكاثف جميعها في علاقات وتصادمات، تفضي في النهاية إلى نسج ارتباطات فعلية مع واقع الشخوص ومصائرهم، بحيث يبدو المعمار الكلي كأنه عمل موحد، رغم ما يشكوه من تشظيات وفراغات سافرة وانتقالات متعمدة، لكن في حدود الهدف المرسوم.يتشكل هيكل بناء رواية «ستون عاماً» من حكايات ولقطات وأقاصيص ونبذ ومشاهد متفرقة، كل جزئية منها لها دلالتها الخاصة، لكنها في مجملها تتضافر وتتآزر في كلية موحدة تتبدى في الفكرة الشاملة التي تتمركز في نسيجها خيوط الالتقاء والتوحيد بين المفردات جراء التطابق الهارموني بين الكل والأجزاء، والتوزيع المتكافئ تقريباً للأدوار والشخوص والملابسات لإشهار فكرة المآلَ التراجيدي للأبطال وقسوة المأساة الفلسطينية، مع أن هذا الإشهار لم يخفف من عبء فكرة التغلب على تراجيدية الحياة تحت نير احتلال غشوم وعصابات شقية مجرمة.

 

***

 

يبني الفنان سياق عمله، ويؤالف بين مكوناته، ويشيد معماره بالطريقة الفضلى التي تستجيب لفكرته، وهو يتدبّر أمره من معرفته العميقة بأسرار الواقع وخباياه، وتجاربه السابقة ودربته في عالم الإبداع، وكمية المعطيات المتوافرة حول الثيمة المنتقاه، كما يتعلم من تجارب الآخرين وممارساتهم الفنية، وأساليب تدشين أعمالهم الأدبية، ويسبغ على أعماله –إذا كان كاتباً حصيفاً ومبادراً رائياً- ألواناً مخصوصة، تبرز فرديته وفرادته وما يأتي به من جديد، سواء أكان في مضمار الشكل أم في المضمون. ومن يتقرّى بنيان رواية «ستون عاماً» يجد أن المؤلف عمَّرها بفسيفساء ناصعة، استمد نُسغها من كنوز التراث العربي.. من فكرة المقامات التي يتزياً فيها البطل المشرد بأقنعة متباينة، لكن الهدف يبقى واحداً في مختلف الحالات، وكذلك العزوف عن مبدأ السياق المتصاعد، واختيار تشابك الأحداث وتعدد الشخوص، إضافة إلى اصطفاء لغة السرد التي تدمج بين الشعر والنثر وإمتاع المتلقي، والتي تستلهم عصارة عناصرها وحيثيات مفرداتها من قراءات المؤلف واستيعائه لأهم نفائس التراث ومصنفاته، وما يَزخر به من قصص وحكايات نثرية وسير حياتية مشحونة بالحكم تارة، وبأجواء من السخرية والدعابة في ظل علائم الكآبة وروح المأساة تارة أخرى، المبثوثة في خزائن وروائع الجاحظ وأبو حيان التوحيدي وأبو العلاء المعري وغيرهم. وتوحي فكرة الرواية وهندسة بنائها، وسبل رصد تصرفات الشخوص ومتابعة سير حياتهم المعيشية، وكيفية تصوراتهم وأحكامهم على ما يواجهون من مجاهدات ومكائد ومعوقات، أن المؤلف استسقى من الآداب العالمية ما أروى به روايته، التي نستشعر فيها آثار فكرة «النفوس الميتة» لغوغول، وطريقة بناء شخصية بيتشورين في «بطل من هذا الزمان» لليرمانتوف، وصورة الجندي شفايك في «مغامرات الجندي الشجاع شفايك في الحرب العالمية» لياروسلاف غاشك، وشدة بأس الكسي زوربا وبليغ حكمته وقوة عزمه وشكيمته في رواية كازانتزاكي الموسومة باسم بطلها «زوربا»، ومسخرات ومغامرات أبطال عزيز نيسين، إلى جانب إفادته من أعمال غسان كنفاني الخالدة، لاسيما «رجال في الشمس»، و«أم سعد»، وتراث إميل حبيبي في «المتشائل»، وأكبر الظن أنه استجار ببعض روايات مؤنس الرزاز، لاسيما روايته الكبرى «متاهة الأعراب في ناطحات السحاب».. أي أن رواية «ستون عاماً» هي ثمرة جهد موصول وعمل صبور ورصد دقيق لمشاهد الواقع تَدعَّم بتعميمات غزيرة، وتحليل بليغ لعالم الشخوص الداخلي، وإسهاب في سرد المشوار اليومي للأبطال، أفضى إلى اندغام التجسيد التحليلي في خصوصية اللغة؛ فانداحت اللغة الدارجة المبسطة، وتفشت وسائل التعبير الشعبية السهلة، وتمخض عن الاحتكام لهذا الأسلوب كشف المنطق الداخلي لمكنون الرواية، وبناء معمارها الفريد، وأتاح للمتلقي التعرف على نهج الكاتب الإبداعي في كيفية اقترابه من هموم الناس، وتجسيده لطموحاتهم وإخفاقاتهم... لأفراحهم وأحزانهم... لأحلامهم وقدراتهم الحقيقية؛ فلهؤلاء الناس يعزف المؤلف أنشودته الأخيرة «حين ينام الآخرون»:."نمضي أياماً طويلة مع الموت.ليس لأننا لا نعرفه وليس لأنه يتراكم علينا.بل لأننا لا نفهم هذا الموت فيصبح موضع جدل.موت عصي على الفهم والوعي والإدراك.هذا الموت الذي صار حالة ثقافية ووجدانية، لأننا شعب له قضية، فنرفع من قيمة الموت ونرخِّص قيمة الحياة.. وهكذا دواليك.. تتقاطر الآلام والمصائب، وتتقاطر الشخوص وتتنوع، لكن العذاب واحد والموت واحد، ويظل دولاب الحياة يدور بلا أمل قريب في عيش مستقر.. في دولة حرة مستقلة".هذه الرواية محاولة جسورة للعبور إلى التاريخ، وإعادة التفكير بالماضي القريب لفهمه واستيعابه، والإمساك بمجراه واتجاه سيره، والتعرف على العوامل التي أثرت فيه وعلى استمراره وتطوره، وإدراك محمولات الظواهر التاريخية ومارافقها من إشكاليات مسّت حياة الملايين من البشر وأثّرت في سيرورة عيشهم ومصائرهم، وذلك لتصحيح الرؤية وتوسيع آفاق الإمكانيات الإبداعية، وإثراء العالم الروحي للأجيال الحاضرة والقادمة، لتقوم بواجبها تجاه قضية الشعب الفلسطيني المنكوب. ولما كان سلمان الناطور يعي جيداً أن التاريخ ليس مادة للتسلية والترفيه، وإنما هو علم يربي في الإنسان المناقب الضرورية لخلق إنسان واع وعضو فاعل في المجتمع، وناشط في الحياة يدرك مكانته الفعلية ودوره في التغيير، يمحّص الماضي وينير الحاضر، ويستشرف ملامح المستقبل ويفتح العيون والأذهان عليه، فإنه حمل على عاتقه تزويد بني قومه بهذا العمل الرائد الشجاع الذي يلتحم فيه الفن والتاريخ بانسجام وتآلف رصين وحكمة بليغة تثبت حُنكة غوغول القائلة: "موهبة المؤرخ تاج المواهب الإلهية، وأسمى تطور للعقل وكماله". ويزيد من ألق هذه الموهبة إذا كانت في حراسة موهبة المبدع القدير، صاحب التجربة المرة وسعة الأفق، الذي يشاهد ويراقب ويعيد تأطير الأحداث وتزمينها بحيث تتسق والواقع الفعلي الذي تجتازه أمته وشعبه، ليستثير مكامن الأسئلة الحارقة التي تؤرق إنسان زمانه، وتقض مضجعه وتستفز حميته لإعادة النظر في خموله وتبلده الفكري تجاه جوهر قضيته الأساسية، وعدالة تطلعات أصحابها الحقيقيين قرناء الوعي الشقي، وإدراك محاولات تزوير التاريخ لصالح الأسطورة الزائفة والزائلة، وسيظل الوعي الشقي ينبض إلى أن ينتهي زمن طرح علامات السؤال وعلامات التعجب، وزوال الكيان الغاصب من جذوره وأساساته.

 

 

قصة أكبر من عمرها

 

عناية جابر

 

8/27/2010

 

لمّا كان صعقني حجم الرواية الضخم للروائي والقاص الألماني توماس مان: 'الجبل السحري' مُترجمة حديثاً الى العربية عن 'دار الجمل'، قلت أقرأ مقدمة المترجم (قاص وروائي) العراقي علي عبد الأمير صالح، علّها تبين لي ما أوشك على التردّي فيه، فرواية مان هذه، وأكاد لا أستطيع حملها من ثقلها، (وهو بالمناسبة صاحب 'الموت في البندقية' الأشهى والأروع برأيي بين الروايات كافة، وتعيش معي وفي كتابتي حتى اللحظة) تربو على الألف صفحة، والراوي لن يفرغ على ما يبدو من قصة الشاب هانز كاستورب في دقيقة واحدة. كما أن أيام الأسبوع السبعة لن تكون كافية لقراءتها حتى لقارىء مجتهد. لن تكون كافية الأيام السبعة ولا حتى سبعة شهور. هل يجب أن تكون سبع سنوات لا سمح الله!لم أتوقف في مقدمة صالح عند طلب الكمال في الكتابة لدى توماس مان، ولا عند الدقة في التعبير عن أفكاره. عبارات لم تجذبني كما لم تجذبني عناية مان الكبرى بالشكل والأسلوب والأداء الفني، ولا شعوره الأخلاقي في الكتابة والتزامه الخلقي، وقلت ان سبباً جوهرياً أكثر شدّ المترجم العراقي لبذل هذه الترجمة المضنية، وآن قرأت قلت للمترجم في سرّي: حسناً، شكراً جزيلاً.المهّم، ما شدّني الى مباشرة الرواية، والإستغراق في سطورها، ومن ثم التهامها في أسبوعين إثنين لاغير، قصتها التي تراءت في السطور الأولى بسيطة، عن رجل ساذج يدعى هانز كاستورب يزمع القيام بزيارة الى أحد المصحات الإستشفائية حيث يقبع إبن خالته نزيلاً فيها. القصة أكبر عمراً من سنواتها، ولا يُمكن قياس عمرها بطول الأيام، ولا بثقل الزمن على رأسها، الزمن المحسوب بعدد مرّات شروق الشمس أو أفولها. سرد مان تفصيلي مُتأن، دقيق، موسوس، بسبب الزمن الذي استغرقته تلك الزيارة، بسبب زمنها الحقيقي أعني، الذي قد يكون طويلاً جداً أو قصيراً جداً.يميل توماس مان الى الرأي القائل أن ماهو مُضن هو وحده الذي يمكن أن يغدو ممتعاً حقاً. قد يخالفه أحدنا في هذا الأمر، ولكن هذا ما فعله تماماً في 'الجبل السحري'نقرأ في تجربة رحلة الشاب كاستورب. لم يكن يعني أن يأخذ رحلته مأخذاً جديّاً أو سلّم نفسه بعمق إليها، بل أن يفرغ منها بسرعة، طالما لزمه ان يقوم بها، وأن يعود كما ذهب، وان يستأنف حياته في النقطة التي في لحظة ركوبه القطار، لزمه أن يضعها.في 'الجبل السحري' يكتب مان في الطب والتشريح والفلسفة والموسيقى وفي مفهوم الزمن، وفي مدينة الله، وفي الحرية والفكر والحب والجنس والثقافة والعلم.من خلال قصة رحلة بدت بسيطة وعادية لشاب يدعى هانز كاستورب زائراً يواكيم ابن خالته المريض نفسياً، والراقد منذ سنوات في مصحّ على تلّ بعيد، أصغينا للنبل الجوهري للنموذج البطولي للكائن، وللتعبيرات الجديدة الغريبة للحياة. الكلمات تلوح مهدّدة كل ما عرفناه قبلاً، وتنتصر مدافعة عن العبقرية الأدبية لتوماس مان المحتفل في كل سطر من سطور روايته بتاريخ الكلمة المكتوبة من اللحظة التي حفر فيها الإنسان تواقاً الى أن يهب معرفته أو عواطفه البقاء، رموز الكلمات على حجر.في الحب يقول مان 'الحب لن يكون شيئاً إن لم يكن جنوناً، انه شيء أحمق، مُحرّم ومغامرة في الألم، أو بوجه من الوجوه هو ابتذال مقبول، جميل كي نصنع منه أغاني قصيرة وديعة في السهول. أما بالنسبة لهذا الذي اعترفت به لك، واعترف لك به قلبي ـ أجل، هذا شيء حقيقي'.في الموسيقى، مان الذي أحبّ فاغنر، ومن خلاله دخل عالم الموسيقى الرائع وكتب فيه بطراوة الموسيقى نفسها: بوق فرنسي يعزف بتردد رقيق، تنويعات على اغنية. صوت سوبرانو طري ومحبّب، تقطّع رائع جداً، غناء راعش للحن: 'النساء الضالات'.سبع سنوات، مكث هانز كاستروب بين أولئك الذين في العالي. نزلاء المصحّ أنصار النظام العشري. الزمن على أية حال ليس الزمن الذي يخبرنا به السرد، بل بالأحرى زمن شديد الصغر، ليس بوسع المرء أن يراه يتحرك. انه الزمن الذي يكتمه العشب حين ينمو، بحيث يستطيع المرء أن يقول انه لا ينمو مطلقاً. ذلك يُشبه زمن الجبل السحري لمان، الى أن ذات نهاية، تكون الحقيقة ساطعة بنحو لا يُنكر.

 

 

Add  your comment أضف تعليقا بالضغط هنا

 

Guest Book دفتر الزوار

 

Share |

 

powered by
Soholaunch website builder
 

©2012 Originality Movement / Tayseer Nazmi