NaZmiUS ORIGINALITY MOVEMENT NEW WEBSITE
































 

Mahmoud Darwish Story Of Creation

Luigia-Sorrentino-2010.JPG

Luigia Sorrentino è nata a Napoli dove ha studiato laureandosi in Giurisprudenza.

Il suo esordio letterario risale al 2003 anno in cui uscì la sua prima raccolta poetica "C’e` un padre" (Manni, 2003), con postfazione di Ruggero Cappuccio.

Nel 2008 pubblica la plaquette "La cattedrale" con una sua acquaforte (Il ragazzo innocuo, di Luciano Ragozzino, Milano, 2008) nella collana Scripsit/Sculpsit, stampata in 50 copie numerate e firmate dall’autrice.

Nello stesso anno esce un’anticipazione della sua raccolta inedita "Ogni cosa del fiume" in Almanacco dello Specchio (Mondadori, Milano, 2008) con la silloge di dodici poesie "L’asse del cuore". A maggio del 2009 esce la sua ultima raccolta di versi, "La nascita, solo la nascita" (Manni, 2009) con prefazione di Maurizio Cucchi.

Giornalista professionista, vive a Roma e lavora a Rai News 24. Cura per il sito del canale la rubrica Poesia.

Member of: AMA LAMEZIA TERME...( Iscrivetevi..Fate girare home), ADOTTA UNA LIBRERIA!, Eruzioni Festival - independent performing art 09, ERGASTOLO PER CHI VIOLENTA LE DONNE E I BAMBINI, VOGLIO ESSERE INTERCETTATO PERCHE' SONO UN CITTADINO ONESTO, QUESTI FANTASMI..., SOLIDARIETA' AL MAESTRO ROBERTO DE SIMONE, Amici di "Casa della poesia", gli amanti della musica di "ANTONIO ONORATO", gli echi dei versi: le parole, Anke io Amo Mario Sorrentino..:D, FERMIAMO I BOIA CHE UCCIDONO LE DONNE IRANIANE, Davide Rondoni-lettera aperta ai professori di lettere, Davide Rondoni, Beppe Salvia, Perchè Gianlu è Un Essere Speciale!, Milo De Angelis

آسية السخيري: يدان تتهجيان الضوء و قمر ليس للموت

 

عن مؤسسة صوت القلم العربي /منشورات مصطفى سعيد/ صدر للأديبة التونسية آسية السخيري مجموعة نصوص نثر/ شعرية "يدان تتهجيان الضوء"

 

http://www.3lsooot.com/booksmall/vbook15556.html

 

كما صدر عن دار نعمان الثقافية ـ لبنان ـ بيروت  مجموعة ( قمر ليس للموت ) للشاعر حسن رحيم الخرساني في نسختها الفرنسية، وقد ترجمتْ القصائد َ الشاعرة ُ والمترجمة آسية السخيري...علما ً أن المجموعة صدرت ْ عن دار ألواح ـ أسبانيا ـ 2002 ، باللغة العربية ـ طبعة أولى ـ ، كما صدرت ْ في البحرين للعام 2008 ـ طبعة ثانية ـ

 

http://www.doroob.com/?p=42109


 

'مختارات شعرية شاملة' لبرتولت بريشت في طبعة جديدة

 

حين يضع الكاتب قلبه الشعري مكان وجهه المسرحي

 

ناظم السيد

 

05/02/2010

 

 

بيروت- 'القدس العربي' تحت عنوان 'مختارات شعرية شاملة' (1913-1953) أعادت 'منشورات الجمل' نشر الأعمال الشعرية شبه الكاملة للمسرحي والشاعر والناقد والقاص والروائي والسيناريست والمنظّر والمناضل ضد النازية برتولت بريشت والتي ترجمها أحمد حسّان. وكانت هذه االترجمة صدرت سنة 1986 في 'دار الفارابي' في بيروت تحت عنوان 'قصائد- برتولد بريخت'. مع ذلك لم يجرِ المترجم أي مراجعة لترجمته التي قدمها قبل ربع قرن. لقد أعيد نشر هذه المختارات الشاملة كما وردت حرفياً في الطبعة السابقة. كذلك أعاد المترجم نشر مقدمة الطبعة الأولى كما وردت رغم بعض الجوانب الخطابية والإنشائية التي وسمت تلك المقدمة، ورغم الأحداث الكبيرة التي جرت خلال تلك السنوات من بينها سقوط الاتحاد السوفييتي وسقوط جدار برلين، هذان الحدثان الفاعلان في بريشت ونتاجه الأدبي الكبير. لقد أعيد نشر المقدمة الأولى، من غير أدنى إشارة في المقدمة الثانية إلى تلك الأحداث الكبيرة أو إلى سقوط مبررات بعض الكلام الذي ورد في المقدمة الأولى حول ' التضييق والحصار والملاحقة في تشتيت الحركة الثقافية' أو حول ' أسماء الكتّاب على رأس قوائم المخربين في بلادنا' أو حول ' قصف ثقافة العنف الإمبرالية' و' الفكر الرجعي' وسوى ذلك من خطاب ينتمي إلى فترة تاريخية بائدة أو ظروف مرحلية ولت. والأهم من هذه الإشارة التي قد تبدو للبعض شكلانية هو عدم إجراء أي مراجعة لتلك الترجمة كما فعل عبد الغفار مكاوي الذي كان نقل بريشت إلى العربية سنة 1967، وحين أعادت دار ' شرقيات' نشر تلك الترجمة سنة 1999 ـ ضمن سلسلة ' عيون الأدب الأجنبي'- صدّرها المترجم بمقدمة جديدة لاحظت ما طرأ من ظروف وأحداث ما بين الطبعتين، كما أعاد المترجم في الطبعة الجديدة الشغل على الترجمة السابقة، مضيفاً إليها قصائد جديدة، وفق ترتيب زمني جديد ( بالاعتماد هذه المرة على الأعمال الشعرية الكاملة لبريشت والتي صدرت لدى الناشر زوركامب سنة 1990). وقد خلص مكاوي أثناء مراجعته الترجمة الأولى إلى هذه النتيجة: ' أدهشتني وأخجلتني كثرة الأخطاء التي وقعت فيها'. هذا الاعتراف ذكرني بجواب الشاعر فؤاد رفقة المتخصص هو الآخر بترجمة الأدب الألماني حين سألته عن ترجمته لديوان ريلكه ' مراثي دوينو' مطلع السبعينات، بالقول إنه يفكر في إعادة نشر ذلك الكتاب مع تعديل في الترجمة التي لم يكن راضياً عنها تماماً.

 

 

الحافر على الحافر

 

 

في كل حال، ينبغي ألا تحجب هذه الملاحظة أهمية إعادة نشر تلك الترجمة التي قدّمها أحمد حسّان بعد ترجمة عبد الغفار مكاوي لأشعار بريشت. فالشاعر الذي كتب ما يقارب ألفي قصيدة يستحق ترجمات عديدة إلى العربية، ولا سيما أن البعض يجهل بريشت كشاعر وإن كان يعرفه كمسرحي عمل على تقديم مسرح خاص هو ' المسرح الملحمي' وفق نظرية ما بات يدُعى باسم ' الإغراب'. كما ينبغي ألا تعوق ملاحظة كهذه حلاوة ترجمة حسّان التي- في اعتقادي- تفوق أحياناً ترجمة مكاوي الأعلم والأخبر ببريشت. لنأخذ على سبيل المثال قصيدة ' إلى أمي' بحسب ترجمة مكاوي: ' لما انتهى أمرها تركوها في التراب/ الزهور تنمو فوقها والفراشات ترف عليها/ هي، الخفيفة، لم تكد تضغط على الأرض/ كم من الآلام احتملتها/ حتى أصبحت بهذه الخفة'. هذه القصيدة يعيد حسّان ترجمتها بطريقة أكثر طلاوة وإن كان التشابه بين الترجمتين شديد القرب: ' وحين انتهت مددوها في التراب/ الأزهار تنمو، والفراشات تتراقص فوقها.../ من فرط خفتها، لم تكد تضغط التراب/ كم من العناء كلف جعلها بهذه الخفة'. أظن أن القارئ لا يحتاج إلى كثير جهد ليلاحظ رهافة الترجمة وخفتها ومتانة السبك لدى حسّان في مقابل بطء التعبير والتركيب والدوران والمبالغة في نثر الجملة لدى مكاوي ( والأمر متروك للذائقة في النهاية). لكن قارئاً متابعاً سيجد ما هو أبعد من المقارنة بين ترجمتي مكاوي وحسان شبه الشاملتين لأشعار بريشت. لقد حذا أحمد حسان حذو عبد الغفار مكاوي إن لم نقل إنه نسخ ترجمته بطريقة بيّنة. إن الترجمة اللاحقة زمنياً تقوم على الترجمة السابقة من حيث تركيب الجمل واختيار المفردات مع بعض التغييرات الطفيفة المكشوفة. وهنا لا يشفع لحسان الذي أشار إلى استفادته من ترجمات سابقة لبريشت من بينها ترجمة مكاوي. ذلك أن الترجمة فعل إبداع وليست ' شغل فاعل' كما يقال باللهجة اللبنانية الدارجة لأعمال المهن من نجارة وحدادة وفلاحة وبناء وغيرها. لو كان حسّان أسبغ شخصيته بشكل أعمق على هذه الترجمة لكانت تفوقت على ترجمة مكاوي التي في رأيي تبدو أمينة أكثر من اللزوم للمعنى وباردة في نثريتها المفرطة، أي أن التزاماً مبالغاً فيه في نقل المعنى الحرفي مع عدم الأخذ بالنواحي الأسلوبية الأخرى من إيقاعات وغناء ولغة أفقد ترجمة مكاوي بعض الحرارة. إذاً، قامت ترجمة حسان على ترجمة مكاوي في تتبعها المعنى وتقطيع الجمل وانتقاء المفردات تتبعاً يمتثل فيه القول العربي القديم ' الحافر على الحافر'. مع ذلك فإن ترجمة حسان بدت أكثر طبيعية ورهافة في آن.

 

 

اكتشاف ماركس

 

 

في ' مختارات شعرية شاملة' يمكن للقارئ أن يكوّن فكرة شاملة عن أشعار بريشت. إن شمولية الترجمة تتيح تكوين مثل هذه الفكرة. فمن البدايات التي تكشف نزق الشاعر وغريزيته كما في قصيدة ' حول ماري قاتلة طفلها' ( عبد الغفار مكاوي ترجم نماذج أفضل لبدايات الشاعر مثل ' حكاية البغي إيفيلين رو' و' عن مودة العالم' و' كورال بال العظيم' و' خرافة الجندي الميت')، إلى موقف الشاعر من المدينة هو المولود في مدينة أوغسبورغ والقادم من جذور ريفية من الغابة السوداء في آخن، إلى قصائده التي تناول فيها ' الإنسان العادي'، أي القصائد النضالية التي تمجّد العمال والفلاحين والبسطاء وتنتصر للإنسان في كرامته وسعيه وحريته. شمولية في الترجمة تكشف انتقال الشاعر من التعبيرية التي تأثر فيها في بداياته قبل تركه مدينة أوغسبورغ للعيش في برلين، تلك التعبيرية التي عكست العنف والقسوة الكامنين في الإنسان والطبيعة ( قصيدته عن بعل أو بال بحسب ترجمة مكاوي تعبير مثالي عن تلك المرحلة). كما تظهر تلك القصائد تأثره بشعراء صعاليك ورحّل أمثال فرانسوا فيّون، إضافة إلى روديارد كيبلينغ ورامبو وكذلك شعراء ألمان أمثال جيورج بوشنر وفيديكند ( الذي رثاه إثر وفاته سنة 1918) كما يعترف الكاتب في يومياته. وكما انتقل بريشت من المرحلة التعبيرية في المسرح من خلال مسرحيات مثل ' بعل'، ' طبول في الليل'، ' في أدغال المدن'، ' جان دارك قديسة المذابح'، إلى المرحلة التعليمية في أعمال مثل ' قائل نعم'، ' قائل لا'، ' الاستثناء والقاعدة'، ' الأم'، ' الإجراء'، وصولاً إلى المسرح الملحمي الإغرابي الذي تأثر فيه بالمسرح الصيني كما في مسرحيات مثل ' الأم شجاعة وأولادها'، ' بنادق الأم كارار'، ' محاكمة لو كللوس'، ' حياة جاليليو'، ' رعب الرايخ الثالث وتعاسته'، ' إنسان ستشوان الطيب'، ' صعود أرتورو أوي الذي يمكن أن يوقف' و' دائرة الطباشير القوقازية'، كذلك انتقل بريشت في الشعر من الرحلة الرعوية أو التعبيرية ( الفوضوية في معنى من المعاني) إلى المرحلة التعليمية، متأثراً بالماركسية التي عكف على قراءتها طويلاً منذ منتصف العشرينات من القرن العشرين ( نفى أن يكون انتمى إلى الحزب الشيوعي حين استدعي مع آخرين للتحقيق من قبل ' لجنة النشاطات المعادية لأميركا' أثناء إقامته في كاليفورنيا التي وصلها سنة 1941 قادماً من منفاه في فنلندا بعد منافيه في الدانمارك والسويد. وقد غادر أمريكا سنة 1947 إثر هذا التحقيق عائداً إلى سويسرا حيث أقام سنة واحدة انتقل بعدها إلى ألمانيا الشرقية حيث أسس فرقة ' برلينر إنسامبل' وأدار مسرحاً مع زوجته الممثلة الشهيرة هيلينه فيغل). لكن شعره لم يكن دعاية ماركسية بقدر ما كان استلهاماً لفلسفة صاحب ' رأس المال' مثلما كان انعكاساً لمثالية هيغل في الوقت نفسه ( مثلاً لديه قصائد عن الجدل وسيولة الأشياء والشك والتحوّل، مثلما لديه قصائد عن البروليتارية والكادحين. وقد تأثر بريشت بمنظرين ماركسيين هما فرتس اشترنبرغ وكارل كورش كما عكف على حضور دروس في مدرسة العمال في برلين). إن ماركسيته لم تكن أيديولوجيا بقدر ما كانت موقفاً من البرجوازية، تلك الطبقة التي انحدر منها (على غرار ماركس نفسه)، إذ كان والده موظفاً في مصنع للورق قبل أن يترقى إلى منصب مدير سنة 1914، وقد أتاحت له وفاة الأم سنة 1920 التحرر من طبقته شيئاً فشيئاً. لقد تحوّل بريشت من شاعر الحواس وشاعر الغرائز وشاعر الفوضى في بداياته إلى شاعر يستلهم الجماعة ويعبّر عن آلامها من غير أن يتحوّل إلى شاعر جماهيري بالمعنى الغوغائي ( وإلا لما ترك ألمانيا سنة 1933 إثر وصول هتلر - ومعه النازية التي لاقت تأييداً عارماً آنذاك - إلى منصب المستشار للرئيس الألماني في 30 كانون الثاني/ يناير 1933). إن تحوّل بريشت إلى شاعر ملتزم بالمعنى الإنساني للكلمة، جعل شعره يتجه إلى البساطة من غير تبسيط معلناً غاية للشعر ' كتابة الشعر يجب أن ينظر إليها باعتبارها فعالية إنسانية، وظيفة اجتماعية من نوع متناقض تماماً، مشروطة بالتاريخ وشارطة له بدورها'. هذه الوظيفة قد تكون انعكست على القيمة الجمالية لبعض قصائد الشاعر، الأمر الذي ينظّر له على هذا النحو: ' بيت شعر سيىء لا يدمّر القصيدة تماماً في أي حال، مثلما لا ينقذها تماماً بيت شعر جيد'. وربما كانت توجهات بريشت الفنية هذه ورؤيته حول وظيفة الكتابة هي التي جعلته يقف موقفاً سلبياً من شعر ريلكه المنحوت والمصقول والمركّب والمترفع.

 

 

طرق إلى القصيدة

 

 

لكن شعر بريشت أكثر تنوعاً مما ورد وكما تبديه هذه المختارات الشاملة. فمن الأشعار الأولى التي كتبها لتغنى برفقة الغيتار ( لحّن آزيلر عدداً كبيراً من قصائده) إلى أغاني الأطفال أو أغاني المهد إلى القصائد التي كتبت مباشرة لتغنى في أعماله المسرحية إلى القصائد التي استهلم فيها الفولكلور إلى القصائد غير المقفاة المكتوبة وفقاً للأوزان الشعرية إنما غير المنتظمة ( بحسب تعبير بريشت نفسه) إلى كتابة السوناتا إلى الحكمة الشعرية (الأبيغرام)، إلى الحكاية الشعرية (البالاد) إلى المرثية، ومن الشعر الملحمي إلى الشعر الدرامي إلى الشعر الحواري الذي يستلهم المسرح، ومن شعر القسوة والفوضى إلى شعر الالتزام إلى الفكاهة المريرة، كان بريشت في كل قصائده ينتقل من كلمة تريد ' أن تثير' إلى كلمة تريد ' أن تربي' على حد رأي عبد الغفار مكاوي الذي يرى عدداً من الأضداد اجتمعت في الشاعر: ' العقل المتيقظ، التهكم المتزن، دفء الشعر الطبيعي وتجريد القضايا المذهبية، لهجة الرعاع وحكمة الصين والنغمة الشعبية البسيطة المباشرة والدعوة السياسية والتعليمية'.

 

' مختارات شعرية شاملة' تكشف الوجه الأول والحقيقي لبرتولت بريشت: الوجه الشعري، أو بتعبير الناقد كلمنت غرينبرغ في وصف أحد أبرز المسرحيين في القرن العشرين: ' كله شاعر'.

 

 

رواية .. الى حدّ ما!!

 

خيري منصور

 

5/1/2010

 

قد لا يكون تعريف جورج لوكاتش الشهير للرواية بأنها ملحمة البرجوازية الأوروبية هو خاتمة المطاف لتطور هذا الفن منذ سيرفانتس حتى آخر رواية صدرت في عالمنا، فالتاريخ لم يتوقف او يتخثر عند لحظة ما حتى لو كانت فاصلة وحاسمة، والرواية الان تكتب بلغات العالم كلّها، وتعبر الثقافات والحدود من خلال الترجمة لكن هناك من يصرون على انها نوع اوروبي المنشأ والهوية، رغم الانقلاب الذي احدثته روايات غير غربية منها روايات امريكا اللاتينية التي اجترحت آفاقا أخرى واحدثت انقلابا في الحساسية بسبب ما سمي واقعيتها السحرية، التي تزاوج على نحو بالغ الفرادة بين الواقع والمتخيّل وبين الاسطورة والتاريخ. وقد لا يكون دقيقاً القول أن عصرنا هذا هو عصر روائي بامتياز، وذلك لإقصاء أنواع أدبية أخرى في مقدمتها الشعر، سواء من حيث النطاق الذي يتحدد فيه منسوب النشر والقراءة او من حيث تحول الكثير من الشعراء الى الرواية رغم ان اطلاق اسم الرواية على بعض تلك الكتابات التي تعيش في ضواحي الشعر وتعد من أقاربه الفقراء حسب تعبير ميشيل بوتور تبقى في المسافة المرنة بين شعرية معلنة وشعرية مبثوثة في السرد، تشبه احيانا البقع القرمزية، نعرف ان التبشير الذي تبلور لدى رولان بارت اكثر من سواه بحذف الفواصل بين الانواع او ما سمي الكتابة في درجة الصفر لقي صدى واسعا في مختلف الثقافات، لكنه شأن أي تبشير مماثل تعرّض لسوء فهم، واعادة انتاج لا تخلو من تلفيق ورغائبية، وكأن المقصود بالغاء تضاريس الانواع العودة الى كتابة بلا بوصلة وبالتالي محررة من الخبرات البشرية التي رسخت منظومة من المفاهيم والمعايير التي يحتكم اليها ولو على صعيد اجرائي لخلق شيفرة نقدية هي بمثابة جدول الضرب في الرياضيات او السلم الموسيقي، ودائما يتكرر سوء الفهم ذاته، فقد قرئت الوجودية عربيا بعين واحدة نصف مغمضة حجب ما فاض من صديدها الناجم عن فائض المكبوت معظم المشهد، وهكذا أسيء فهم الحرية، فأصبحت تختزل في عبارة واحدة هي ان يفعل الانسان ما يريد، والحقيقة انها اشدّ تعقيدا وقسوة من هذا الاختزال الغرائزي، فهي احيانا ان لا يفعل المرء ما يريد، لا بسبب كوابح موروثة ومعلّبة او أعراف ذات نفوذ، بل لأن البعد الاخلاقي لهذه الفلسفة يبهظ الانسان بأعباء هي اضعاف تلك الاعباء التي جاءت بسبب الموروث العقائدي او الاخلاق الموروثة والتي لا فضل للفرد فيها. لهذا صوّر سارتر الحرية كما لو انها صخرة ينوء بها حاملها وهو الاله جوبيتر وهو يقطع نهرا، وهي بخلاف صخرة سيزيف تتجاوز العدمية والتكرار العقيم الى ابتكار المعنى والهدف، وتكرر سوء الفهم هذا مع ما سمي الرواية الجديدة او الرواية المضادة في فرنسا تحديدا، حيث لعبت تيارات فلسفية منها الظاهراتية او الفينومولوجيا دورا اساسيا في نقل عدواها الفكرية الى المجال الروائي، فأقصي الزمان لصالح المكان وأصبح الشيء بديلا للكائن، وأخذ دور البطولة في الرواية، وقد عبّرَ ألان روب غرييه، الذي رفض تسمية المنحى الذي يكتب فيه الرواية المضادة ، عن ذلك قائلا: ان الرواية كما يكتبها هي كما هي... ولا شيء آخر، اما التنميط فهو شأن نقدي يراد به الدفاع عن الكسل والاقلاع عن المغامرة والكشف ..

 

ان ظهور تيارات في الثقافة على اختلاف تجلياتها ليس معزولا عن تطورات تاريخية واجتماعية، فالحرب مستمرة بين النزوع الى الانعتاق من التابوات وبين هذه التابوات المسلحة بالسلطتين الايديولوجية والسياسية، لهذا لا ينفصل ظهور التيارات الشكلانية عن المناخات التاريخية والاجتماعية التي تسود في حقبة ما، وقد تكون فترة ما بين الحربين العالميتين نموذجا لازدهار تيارات تجريبية تشكك بالموروث كله، وتعلن العصيان على تاريخ أدى الى ذلك الموت بالجملة والدمار الذي شمل حتى الرّوح، ومن أسوأ ما تورط به النقد المدرسي الكسول تصنيف الابداع في تيارات ومذاهب وخانات، فعلى سبيل المثال حشر ماياكوفسكي مع بيرلوك الروسي ومارينتي الايطالي في ما سمي التيار المستقبلي، رغم ان أحد شعراء ذلك التيار انتهى الى أقاصي الشعر بالانتحار وهو ماياكوفسكي بينما انتهى زميله الاكثر تطرفا منه الى كتابة وصفات في فنّ الطّبخ!

 

* * * * * * * *

 

قد يكون هناك تضاد فكري وجمالي بين ما قاله همنغواي مثلا وهو : لا اكتب الا عمّا اعرف، وبين ما سيقول روائي آخر وهو لا أكتب الا عمّا سأعرف، ففي العبارة الثانية احلال للشعرية بأدق دلالاتها مكان الرواية، لأن الشعر ينشأ اثناء كتابته، وهذا ما دفع سارتر الى استثنائه مما سماه بالأدب الملتزم، وفي النهاية لا يكتب المرء الا ما يعرف، لكن كلمة المعرفة هذه ليست معلّبة في دلالاتها المعجمية، فالخيال ايضا معرفة، لأنه يعيد انتاج الذاكرة بمهارات لاحقة .

 

وكان على العالم ان ينتظر قرنا على الأقل ليعيد تعريف واقعية تشيخوف مثلا، او ليكتشف البعد الواقعي اليومي لكوابيس كافكا كما فعله وريثه كونديرا، عندما تتبع الخيط السري الأسود لمصائر شخوص سلفه التشيكي في ذروة ما بلغته النظم التوتالية، وفي كل الأزمنة كان هناك من يبدعون ويكدحون مقابل من يصرخون ويفرطون في المحاكاة، لكن غربال الزمن ليس أعمى وغالبا ما يعيد الاعتبار ولو بأثر رجعي لهؤلاء الأقل انهماكا في تسويق ما يكتبون، كما فعل مع مارسيل بروست بعد رحيله، وكما سيفعل خلال العقود القادمة بعد ان خلطت الميديا الحاذفة نابل الابداع بحابل نقيضه، وأصبح من يطفون على السطوح هم الأكثر خفة وتجويفا والأقل استدعاء للمساءلات العميقة سواء تعلقت بالوجود او الكينونات السياسية .

 

* * * * * * * * * *

 

ما من رواية يمكن وصفها بأنها رواية جدّا كي يتاح لنا القول بأن هناك رواية الى حدّ ما، فالرواية جدا قد تكون المعادل السردي للشعرية الخالصة، او الشعر المحض كما يسميه بول فاليري، كلاهما الرواية جدا والشعر الخالص، سقوف عالية وغير مرئية ونهايات توظف لصالح القياس، ونهي اشبه بمياه الاسطورة التي كانت تنأى كلما اقترب منها الظامىء. انها بشكل ما تشبه الحرية في أقاصيها المُتخيّلة تماما كما ينتهي مقياس ريختر للزلازل بدرجة لا يتاح لأحد أن يراها اذا كانت تحدد منسوب الزلزال ...

 

ولدينا الان في ثقافتنا العربية رغم تحفظي على هذا الوصف، لأن الهويات سواء كانت للبشر ومجموعاتهم او للأنواع الادبية باتت عرضة للشكوك، ركام من الكتابات المصنّفة في خانة الرواية، لسبب واحد فقط، انها ليست شعرا او مقالة او سردا طليقا او تأملات او ما يسميه النقاد الفرنسيون ' المحاولات'، انها نشارة خشب او برادة حديد تراكمت بعد انجاز الورشات، وحين نطلق على هذا النمط من الكتابة التي تتذرع بعبور الأنواع شبه رواية، فذلك ليست لأنها تشبه الرواية بأي تعريف لو كان تقريبيا، فالشبيه هو احيانا النقيض الذي يذكرنا بالاصل الغائب، ولأن الحراك النقدي ينعم ببطالة تحسده عليها السلاحف فالحبل متروك على الغارب، وأقانيم الكتابة الثلاثية هي باختصار تكاليف النشر وتسويق المنشور فضائيا وبعيدا عن نطاق القراءة وعرض صحافي هو أيضا نقد الى حدّ ما!!!

 

شعرية بودلير النثرية تكشف طابورا من الابناء والاحفاد:

 

ترجمة عربية لديوان ' سأم باريس' في المجلس الاعلى للثقافة

 

محمود قرني

 

5/1/2010

 

القاهرة ـ ' القدس العربي' عن المشروع القومي للترجمة الذي يصدره المجلس الاعلى للثقافة صدرت الترجمة العربية لديوان الشاعر الفرنسي شارل بودلير ' سأم باريس ' بترجمة للشاعر محمد أحمد حمد ومراجعة الدكتورة كامليا صبحي، وكان الكاتب والمترجم بشير السباعي قد سبق له ان قدم ترجمة للكتاب نشرتها كاملة مجلة ' الكتابة الاخرى' في العام الماضي، رغم ان المترجم يشير الى ان ترجمته هي الاولى للديوان الى العربية وإن ترجمت بعض القصائد المختارة من هذا الديوان في مواضع متفرقة.

 

يرصد المترجم ان بودلير بدأ كتابة قصائده النثرية عام 1857 عقب نشر ديوانه ' ازهار الشر'، مدفوعا بالرغبة في شكل شعري يمكنه استيعاب العديد من تناقضات الحياة اليومية في المدن الكبرى حتى يقتنص في شباكه الوجه النسبي الهارب للجمال حسب تضمين المترجم، الذي يضيف ان بودلير وجد ضالته فيما كتبه الوزيوس بيرتيران من بالادات نثرية مستوحاة من ترجمات البالادات الاسكتلندية والالمانية الى الفرنسية. والبالاد يعرفه المترجم بالنص الذي يشبه الموال القصصي في العربية وهو الشكل الذي استوحاه وردزورث وكوليريدج في ثورتهما على جمود الكلاسيكية.

 

وفي عام 1861 بدأ بودلير في محاولة لتدقيق اقتراحه الجمالي وتنفيذه فكتب هذه القصائد التي تمثل المدينة اهم ملامحها والتي يراها حسب المترجم، معينا لا ينضب من النماذج والاحلام .

 

ويرصد المترجم ان الشاعر شارل بودلير كان يرى ان الحياة الباريسية غنية بالموضوعات الشعرية الرائعة وهي القصائد التي اضيفت الى ' ازهار الشر' في طبعته الثانية عام 1861 تحت عنوان ' لوحات باريسية' .

 

لم ينشر ديوان ' سأم باريس' في حياة بودلير، وهو الديوان الذي لم يتحمس له غوستاف لانسون وسانت ـ بيف، هذا الديوان الذي اثر تأثيرا عارما في الاجيال اللاحقة.

 

وهنا ننقل نص الرسالة التي بعث بها بودلير الى صديقه ارسين هوساي رئيس تحرير صحيفة ' لابريس' التي نشرت القصائد العشرين الاولى من هذا الديوان التي بعث بها بودلير رفق رسالته:

 

رسالة الى ارسين هوساي

 

صديقي العزيز، ارسل اليك عملا صغيرا، ليس بمقدور المرء ان يقول عنه، دون ظلم انه لا ذنب له ولا رأس بما ان له على العكس من هذا رأسا وذنبا في الوقت نفسه، بالتناوب وبالتبادل، ارجوك ان تتأمل مدى روعة اسباب السعادة التي يقدمها التأليف الى الجميع، اليك والى القارئ، فنحن نستطيع ان نقطع حيث نشاء. اقطع انا احلامي وانت تقطع المخطوط والقارئ يقطع قراءته لاني لا اعلق الارادة العنيدة لهذا الاخير على خيط لا ينتهي في حبكة لا طائل من ورائها. احذف فقرة من هذا الخيال المؤلم وستلتئم القطعتان دون ألم، هشمه الى شظايا كثيرة وسترى ان كل شظية يمكنها ان توجد بمفردها وعلى أمل ان تصبح بعض هذه القطع حية بما يكفي لامتاعك والترويح عنك فاني اجرؤ على اهداء الثعبان اليك بأكمله.

 

وعندي اعتراف بسيط اقدمه لك وهو انه عند تصفحي للمرة العشرين على الاقل، لديوان ' جاسبار الليل الشهير' لألوزيوس بيريتران (وهو كتاب معروف لك ولي ولبعض اصدقائنا، أليس له كل الحق في ان يسمى شهيرا؟) جاءتني فكرة ان اقوم بتجربة شيء مشابه وان اطبق على وصف الحياة الحديثة او بالاحرى حياة حديثة اكثر تجريدا النهج الذي طبقه في تصويره للحياة القديمة المليئة بالصور على نحو غير مألوف. من منا لم يحلم ايام طموحه بمعجزة نثر شعري موسيقي بلا ايقاع وبلا قافية، اكثر مرونة واشد تفاوتا في اللفظ ليتلاءم مع الحركات الغنائية للروح وتموجات الاحلام وقفزات الوعي؟

 

فمن معايشة المدن الكبرى خصوصا ومن تشابك علاقاتها التي لا تحصى ولد هذا المثال المؤرق وانت نفسك يا صديقي ألم تحاول ان تترجم الصرخة الحادة لصانع الزجاج في اغنية وان تعبر في نثر غنائي عن كل الايحاءات المحزنة التي ترسلها هذه الصرخة الى حجرة السقف عبر الضباب بالغ الارتفاع في الشارع؟ ولكن لاقول الحق اني اخشي الا تكون غيرتي قد حملت لي حسن الحظ، فما ان بدأت العمل حتى ادركت انني لم ابق فقط بعيدا تماما عن نموذجي الغامض الباهر لكنني ادركت انني لم ابق فقط بعيدا تماما عن نموذجي الغامض الباهر، لكنني ادركت ايضا اني صنعت شيئا ما ( اذا كان يمكن تسميته شيئا ما) مختلفا على نحو فريد، وهي صدفة كفيلة بجعل الاخرين جميعا ـ الا انا ـ يشعرون بالفخر دون ريب، ولكنها لن تستطيع الا ان تحط بعمق من شأن روح ترى ان اعظم ترف للشاعر هو ان ينجز بصورة صحيحة ما خطط لتحقيقه.

 

صديقك المخلص شارل بودلير

 

 

هذا ويقع الكتاب في 175 صفحة من القطع المتوسط تصدر بمقدمة للمترجم محمد احمد حمد واختتم بمقدمة ثانية للمحقق ايف فلورين الكاتب المسرحي والروائي الذي حقق اعمال بودلير الكاملة عام 1972 وصدرت عن المكتبة الفرنسية العامة سلسلة الجيب. وهنا بعض قصائد ديوان سأم باريس :

 

مختارات من ديوان ' سأم باريس'

 

شارل بودلير

 

المترجم: محمد احمد حمد

 

مراجعة: كامليا صبحي

 

هكذا سريعا

 

طلعت الشمس مئة مرة من قبل، مشرقة او حزينة، من هذا الحوض الهائل للبحر الذي لا تدرك شواطئه الا بعناء، وغاصت مئة مرة متلألئة او كئيبة في حمامه المسائي الهائل، ومنذ عدة ايام، كنا نستطيع ان نتأمل الجانب الآخر من قبة السماء، وان نفك شفرة حروف الهجاء السماوية من اقاصي الارض، وكان كل مسافر يئن ويهمهم. وكأن الاقتراب من الارض يزيد من معاناته، وكانوا يتساءلون: متى اذن نتوقف عن النوم الذي يهزه الموج. وترهقه ريح يرتفع صريرها اعلى من غطيطنا، متى نستطيع ان نأكل من اللحم غير المملح كالعنصر الكريه الذي يحملنا؟ متى نستطيع ان نهضم في مقعد ثابت؟ .

 

وكان منهم من يفكرون في اوطانهم ويتحسرون على زوجاتهم الخائنات المتجهمات وعلى ذريتهم المتصايحة. كانوا جميعا يكاد يصيبهم الجنون لصورة الارض الغانية التي اعتقد انهم سيأكلون من عشبها بكثير من الحماسة كالبهائم.

 

واخيرا ظهرت علامة لساحل. ورأينا عند اقترابنا انه كان ارضا رائعة مبهرة. كان يبدو ان موسيقى الحياة قد استحالت الى موج هامس وان شواطئها الغنية بالخضرة من كل الانواع، تضوع روائح منعشة من الازهار والفاكهة لمسافة بعيدة.

 

وفي الحال صار الكل سعيدا وهجر مزاجه السيئ ونسيت كل المعارك. وغفرت كل الاخطاء المتبادلة، وكل المبارزات المتفق عليها محيت من الذاكرة، وتطايرت الاحقاد كالادخنة.

 

وكنت انا وحدي حزينا، حزينا على نحو غير مفهوم كنت اشبه كاهنا انتزع منه معبوده، لم اكن استطيع دون مرارة مؤلمة. ان انفصل عن هذا البحر المغوي على نحو بالغ الوحشية عن هذا البحر المتقلب بطريقة لا نهائية تماما رغم بساطته المرغبة، والذي يبدو انه يحوي في داخله، ويمثل بألعابه، وهيئته وثوراته وابتساماته الطبائع والعذابات والمسرات لكل الارواح التي عاشت والتي تعيش والتي ستعيش!

 

وعند قولي وداعا لهذا الجمال الذي لا يقارن، شعرت اني حزين حتى الموت، وهذا هو السبب الذي يجعلني عندما يقول احد رفاقي اخيرا! اصيح قائلا: هكذا سريعا؟ .

 

ومع ذلك كانت هي الارض، الارض بكل ضجيجها وشهواتها. وبضائعها، واعيادها كانت ارضا غنية هائلة ملأى بالرعود التي ترسل الينا عطرا غامضا من الورد والمسك، وكانت تصلنا منها موسيقى الحياة في همس عاشق.

 

النوافذ

 

ان ذلك الذي ينظر من الخارج عبر نافذة مفتوحة، لا يرى مطلقا كثيرا من الاشياء كذلك الذي ينظر الى نافذة مغلقة: فلا يوجد شيء اكثر عمقا واكثر غموضا. واكثر خصوبة، واشد، عتامة واكثر اشراقا من نافذة مضاءة بشمعة. ذلك ان ما يستطيع الانسان رؤيته في الشمس يعد اقل اثارة للاهتمام دائما من ذلك الذي يحدث خلف الزجاج، ففي هذه الفتحة السوداء او المضيئة تحيا الحياة، تحلم الحياة، تقاسي الحياة.

 

اني المح في الناحية الاخرى من موجات السقوف امرأة ناضجة هاجمتها التجاعيد بالفعل، فقيرة، تنحني دائما على شيء ما، لا تخرج ابدا بوجهها، بملابسها، بايماءاتها، بلا شيء تقريبا، اعدت صياغة قصة هذه المرأة، او بالاخرى اسطورتها. وفي بعض الاحيان، اقصها على نفسي باكيا، ولو انها كانت رجلا فقيرا عجوزا لكنت اعدت صياغة قصته بنفس السهولة، واني لارقد فخورا بأني قد عشت وقاسيت آلامي من خلال اخرين غيري.

 

ربما تقول لي: امتأكد انت من ان هذه الاسطورة هي الحقيقة؟ ماذا يهم حتى لو كانت الحقيقة موجودة خارج ذاتي، ما دامت تساعدني على الحياة، وعلى الشعور بكياني، وبماذا اكون؟

 

الرغبة في الرسم

 

كان الرجل سيئ الحظ، ولكن محظوظ هو الفنان الذي تمزقه الرغبة.

 

اني اتوق الى رسم تلك التي لم ارها الا نادرا ثم اختفت بسرعة بالغة كشيء جميل يفتقده المسافر الذي غيبه الليل، وكم مضى وقت طويل منذ اختفائها.

 

انها جميلة. واكثر من جميلة، انها مذهلة يشع منها السواد وكل ما تلهمه ليلي وعميق، عيناها كهفان يتلألأ فيهما الغموض ونظرتها تضيء كالبرق وكأنها انفجار في الظلمات. لو كان لي ان اقارنها بشمس سوداء. اذا استطاع الانسان ان يتصور نجما اسود يصب الضوء والسعادة. ولكنها تبعث على التفكير عن طيب خاطر في القمر الذي اثر عليها، دون شك بسطوته الرهيبة، ولست اعني القمر الابيض الذي يلهم الغزليات الرعوية، والذي يشبه عروسا باردة، وانما القمر المشؤوم المسكر المعلق في عمق ليلة عاصفة، وتدفعه غيوم تجري، ليس القمر الوادع الحذر الذي يزور نوم الرجال الانقياء، ولكن القمر المنتزع من السماء، مهزوما وعاصيا، ويرغمه سحرة تساليا بقسوة على الرقص فوق العشب المرتجف.

 

وفي جبينها الصغير تسكن الارادة الصلبة وحب الفريسة، مع ان اسفل هذا الوجه المقلق، حيث فتحتا الانف المتحركتان تستنشقان المجهول والمستحيل. تشرق برقة لا يمكن التعبير عنها، ضحكة فم واسع، احمر وأبيض ولذيذ، يمنح الحلم بمعجزة زهرة رائعة تتفتح في ارض بركانية.

 

ان من النساء من يلهمن الرغبة في قهرهن والتمتع بهن، ولكن هذه تمنح الرغبة في الموت ببطء تحت بصرها.

 

افضال القمر

 

نظر القمر الذي هو النزوة ذاتها، من النافذة، فيما كنت تنامين في مهدك وقال لنفسه: تعجبني هذه الطفلة، ونزل في نعومة على سلمه الغيمي ومن دون صخب عبر الزجاج وبسط نفسه عليك في رقة ام حانية، ونشر ألوانه على وجهك. فبقيت حدقتا عينيك خضراوين، وخداك شاحبين على نحو غير هادي، وعند تأملك هذا الزائر اتسعت عيناك على نحو بالغ الغرابة، وضمك برقة الى الصدر حتى انتابتك الى الابد الرغبة في البكاء.

 

ومع ذلك، ففي اتساع فرحة ملأ القمر الغرفة كلها، كجو فسفوري كشراب مضيء وكان كل هذا الضوء الحي يفكر ويقول: ستعانين سرمديا تأثير قبلتي ستكونين جميلة على طريقتي ستحبين ما احب، ومن يحبني الماء والغمام والصمت والليل والبحر الهائل الاخضر والماء الذي لا شكل له والمتعدد الاشكال، والمكان الذي لن تكوني فيه والعاشق الذي لن تعرفيه والزهور البرية والعطور التي تبعث على الهذيان والقطط التي تنتشي فوق البيانو والتي تئن كالنساء بصوت خشن وجذاب.

 

وسيعشقك عشاقي ويتودد اليك من يتوددون الي، وستكونين ملكة على الرجال ذوي العيون الخضراء الذين ضممتهم الى صدري ايضا في مداعباتي الليلية. وعلى اولئك الذين يعشقون البحر، البحر الهائل الصاخب والاخضر. والماء الذي لا شكل له والمتنوع الاشكال والمكان الذي لن يكونوا فيه والمرأة التي لا يعرفونها والزهور المشؤومة التي تشبه المجامر في دين مجهول والعطور التي تجعل الارادة تضطرب والحيوانات المتوحشة والشهوانية التي هي رمز لجنونهم.

 

وانه لهذا ايتها الطفلة الملعونة العزيزة المدللة، اجثو الان عند قدميك باحثا في شخصك كله عن صدى الالوهية المرعب، والعرابة المشؤومة منذرة السوء والمرضعة التي تبث سمها لكل متقلبي الاطوار!

 

ايهما الحقيقية

 

عرفت راهبة من كانت تملأ الجو بالمثل الاعلى. كانت عيناها تنثران الرغبة في العظمة في الجمال في المجد وفي كل ما يبعث على الاعتقاد في الخلود.

 

ولكن هذه الفتاة المعجزة كانت اجمل من ان تعيش طويلا، وقد ماتت بعد بضعة ايام من تعرفي عليها وكنت انا نفسي من دفنها ذات يوم كان الربيع فيه يحرك مبخرته حتى في القبور انه انا من دفنها باحكام في تابوت من خشب معطر وغير قابل للفساد كنواويس الهند.

 

وبينما بقيت عيناي مغروستين في المكان الذي دفن فيه كنزي رأيت فجأة فتاة صغيرة تشبه الفقيدة على نحو غريب، تدق الارض الندية بعنف هستيري غريب قائلة وهي تنفجر ضاحكة: اني انا الراهبة الحقيقية اني انا الوغدة الشهيرة! وعقابا على حماقتك وعماك ستحبني كما انا!

 

ولكني اجبتها غاضبا: لا، لا، لا وحتى اؤكد رفضي على نحو افضل ضربت بقدمي الارض بطريقة بالغة العنف حتى غاصت ساقي الى الركبة في القبر الحديث وكذئب وقع في الكمين ظللت عالقا ربما الى الابد بحفرة المثل الاعلى.

 

جواد اصيل

 

انها بالغة القبح، ولكنها لذيذة مع ذلك.

 

لقد حفر الزمن والحب بأظافرهما علامات عليها، وعلماها بقسوة ما تودي به كل دقيقة وكل قبلة من الشباب والنضارة.

 

انها قبيحة حقا انها نملة عنكبوت اذا شئت مجرد هيكل عظمي ولكنها ايضا ارتواء مهابة سحر خلاصة القول: انها رائعة.

 

لم يستطع الزمن ان يسقط الانسجام الوضيء لمشيتها ولا رشاقة بنيتها غير القابلة للفناء ولم يغير الحب عذوبة نفسها الطفلي، ولم ينزع الزمن شيئا من شعرها الغزير الذي تنبعث من عطوره الصهباء الحيوية الشيطانية لجنوبي فرنسا: نيم، ايكس آرل افينيون ناربون تولوز، مدن باركتها الشمس معشوقات ساحرات!

 

لقد عضها الزمن والحب عبثا بأسنان قوية ولكنهما لم ينتقصا شيئا من السحر الغامض الابدي لنهدها الصبياني.

 

وربما تكون مستهلكة ولكنها غير متعبة وهي دائما بطولية انها تذكر بالجياد الاصيلة هذه الجياد العظيمة التي تتعرف عليها عين عاشقها الحقيقي حتى وهي مشدودة الى مركبة فاخرة للايجار او الى عربة ثقيلة.

 

وفضلا عن لطفها البالغ وتوهجها الرائع فانها تحب كما يحب الانسان في الخريف وكأن اقتراب الشتاء يشعل فيها نارا جديدة وان الخضوع لرقتها ليس فيه ما يرهق على الاطلاق.

 

المرآة

 

دخل رجل مخيف، ونظر الى نفسه في المرآة.

 

لماذا تنظر الى نفسك في المرآة حيث انك لا تستطيع رؤيتها الا في كدر؟ .

 

اجابني الرجل المخيف: سيدي، طبقا للمبادئ الخالدة لعام 89 فان كل الناس متساوون في الحقوق وبناء عليه فاني املك الحق في النظر الى نفسي في المرآة، في سعادة او في كدر ولا يرجع هذا الا الى ضميري .

 

باسم التفكير السليم كان لي حق دون ريب اما من وجهة نظر القانون فانه لم يكن مخطئا.

 

أنا مليءٌ بالموتى

 

حاييم غوري

 

أنا مليءٌ بموتى محفوظين داخلي

 

أنا مليءٌ بأسماء منقوشة في الحجر

 

وأَيْمانٍ وهمساتٍ ونُذور

 

أنا مليءٌ بآراء مُسبقة

 

ب لا خيارات وأبطال،

 

وهم صناديد كالأسود، كما يُقال

 

وهم أخفُّ من نُسور

 

أنا أقفُ كنشيدٍ وطنيّ

 

حتى ينتهي.

 

أجلسُ، أُراقبُ نقطة في المكان

 

مشبوهاً كما الباقين

 

أنا مليءٌ بقرى مهجورة، حاجيات متروكة

 

بنعالٍ فاغرة، مِزَق ألحفة صوفية، صُرر مثقوبة

 

ببقايا تبن، أرسان ظلّت تنتظرُ حتى أعيت

 

محاريث من خشب، مناجل، غرابيل، أرغفة جفّت. (...)

 

أنا مليءٌ بصمت الحيطان، نوافذ اللاضوء. بنحاسٍ وجِفان

 

أرى أباريق فارغة، ظُلُمات الآبار

 

أرى حطّات، مناديل، شالات وملاءات،

 

هنا طرحةٌ أخرى، هنا بُرقعٌ آخر

 

ألتقي كلاباً مجدوعة الآذان، بلا أسماء، ظلّت تحرس

 

خلخالاً ينتظر حتى اليوم كاحله .

 

علي محطة قطار سقط عن الخريطة

 

محمود درويش

 

15/05/2008

 

عُشْبٌ، هواء يابس، شوك، وصبار

 

علي سلك الحديد. هناك شكل الشيء

 

في عبثية اللاشكل يمضغ ظِلَّهُ...

 

عدم هناك موثق.. ومطوَّقٌ بنقيضه

 

ويمامتان تحلقان

 

علي سقيفة غرفة مهجورة عند المحطةِ

 

والمحطةُ مثل وشم ذاب في جسد المكان

 

هناك ايضا سروتان نحيلتان كإبرتين طويلتين

 

تطرّزان سحابة صفراء ليمونيّةً

 

وهناك سائحةٌ تصوّر مشهدين:

 

الأوّلَ، الشمسَ التي افترشتْ سرير البحرِ

 

والثاني، خُلوَّ المقعدِ الخشبيِّ من كيس المسافرِ

 

(يضجر الذهب السماويُّ المنافقُ من صلابتهِ)

 

وقفتُ علي المحطة.. لا لأنتظر القطارَ

 

ولا عواطفيَ الخبيئةَ في جماليات شيء ما بعيدٍ،

 

بل لأعرف كيف جُنَّ البحرُ وانكسر المكانُ

 

كحجرة خزفية، ومتي ولدتُ وأين عشتُ،

 

وكيف هاجرتِ الطيورُ الي الجنوب او الشمال.

 

ألا تزال بقيتي تكفي لينتصر الخياليُّ الخفيفُ

 

علي فساد الواقعيِّ؟ ألا تزال غزالتي حُبلَي؟

 

(كبرنا. كم كبرنا، والطريق الي السماء طويلةٌ)

 

كان القطار يسير كالأفعي الوديعة من

 

بلاد الشام حتي مصر. كان صفيرُهُ

 

يخفي ثُغاءَ الماعزِ المبحوحَ عن نهم الذئاب.

 

كأنه وقت خرافي لتدريب الذئاب علي صداقتنا.

 

وكان دخانه يعلو علي نار القري المتفتّحات

 

الطالعات من الطبيعة كالشجيراتِ.

 

(الحياةُ بداهةٌ. وبيوتنا كقلوبنا مفتوحةُ الأبواب)

 

كنا طيبين وسُذَّجاً. قلنا: البلادُ بلادُنا

 

قلبُ الخريطة لن تصاب بأيَّ داءٍ خارجيٍّ.

 

والسماء كريمة معنا، ولا نتكلم الفصحي معاً

 

الا لماماً: في مواعيد الصلاة، وفي ليالي القَدْر.

 

حاضُرنا يسامرنا: معاً نحيا، وماضينا يُسلّينا:

 

اذا احتجتم إليّ رجعتُ . كنا طيبين وحالمين

 

فلم نر الغدَ يسرق الماضي.. طريدَتَهُ، ويرحلُ

 

(كان حاضرنا يُرَبِّي القمح واليقطين قبل هنيهة،

 

ويُرقِّصُ الوادي)

 

وقفتُ علي المحطة في الغروب: ألا تزال

 

هنالك امرأتان في امرأة تُلَمِّعُ فَخْذَهَا بالبرق؟

 

اسطوريتان ـ عدوّتان ـ صديقتان، وتوأمان

 

علي سطوح الريح. واحدةٌ تغازلني. وثانيةٌ

 

تقاتلني؟ وهل كَسَرَ الدمُ المسفوكُ سيفاً

 

واحداً لأقول: إنّ إلهتي الأولي معي؟

 

(صدَّقْتُ أغنيتي القديمةَ كي أكذّبَ واقعي)

 

كان القطار سفينةً بريةً ترسو.. وتحملنا

 

الي مدن الخيال الواقعية كلما احتجنا الي

 

اللعب البريء مع المصائر. للنوافذ في القطار

 

مكانةُ السحريِّ في العاديِّ: يركض كل شيء.

 

تركض الاشجار والافكار والامواج والابراج

 

تركض خلفنا. وروائح الليمون تركض. والهواء

 

وسائر الاشياء تركض، والحنين الي بعيد

 

غامضٍ، والقلب يركضُ.

 

(كلُّ شيءٍ كان مختلفاً ومؤتلفاً)

 

وقفتُ علي المحطة. كنت مهجوراً كغرفة حارس

 

الأوقات في تلك المحطة. كنتُ منهوباً يطل

 

علي خزائنه ويسأل نفسه: هل كان ذاك

 

العقلُ / ذاك الكنزُ لي؟ هل كان هذا

 

اللازورديُّ المبلَّلُ بالرطوبة والندي الليليِّ لي؟

 

هل كنتُ في يوم من الأيام تلميذَ الفراشة

 

في الهشاشة والجسارة تارة، وزميلها في

 

الاستعارة تارة؟ هل كنت في يوم من الايام

 

لي؟ هل تمرض الذكري معي وتُصابُ بالحُمَّي؟

 

(أري أثري علي حجر، فأحسب انه قَمَري

 

وأنشدُ واقفاً)

 

طللية اخري وأُُهلك ذكرياتي في الوقوف

 

علي المحطة. لا أحب الآن هذا العشب،

 

هذا اليابس المنسيّ، هذا اليائس العبثيَّ،

 

يكتب سيرة النسيان في هذا المكان الزئبقيِّ.

 

ولا أحب الأقحوان علي قبور الأنبياء.

 

ولا أحب خلاص ذاتي بالمجاز، ولو أرادتني

 

الكمنجةُ ان اكون صدي لذاتي. لا احب سوي

 

الرجوع الي حياتي، كي تكون نهايتي سرديةً لبدايتي.

 

(كدويّ أجراسٍ، هنا انكسر الزمان)

 

وقفتُ في الستين من جرحي. وقفتُ علي

 

المحطة، لا لأنتظر القطار ولا هتاف العائدين

 

من الجنوب الي السنابل، بل لأحفظ ساحل

 

الزيتون والليمون في تاريخ خارطتي. أهذا...

 

كل هذا للغياب وما تبقي من فُتات الغيب لي؟

 

هل مرَّ بي شبحي ولوّح من بعيد واختفي

 

وسألتُهُ: هل كلما ابتسم الغريبُ لنا وَحَيَّانا

 

ذبحنا للغريب غزالةً؟

 

 (وقع الصدي مني ككوز صنوبرٍ)

 

لا شيء يرشدني الي نفسي سوي حدسي.

 

تبيض يمامتان شريدتان رسائلَ المنفي علي كتفيَّ،

 

ثم تحلقان علي ارتفاع شاحب. وتمرُّ سائحةٌ

 

وتسألني: أيمكن ان أصوّركَ احتراماً للحقيقة؟

 

قلت: ما المعني؟ فقالت لي: أيمكن ان أصوّرك

 

امتدادا للطبيعةِ؟ قلت: يمكنُ.. كل شيء ممكنٌ.

 

فَعِمِي مساءً، واتركيني الآن كي أخلو الي

 

الموت.. ونفسيّ!

 

(للحقيقة، ههنا وجه وحيدٌ واحدٌ

 

ولذا.. سأنشد)

 

أنتَ أنتَ ولو خسرتَ. أنا وأنتَ اثنان

 

في الماضي، وفي الغد واحد. مَرَّ القطار

 

ولم نكن يَقِظَيْنِ، فانهض كاملاً متفائلاً،

 

لا تنتظر احداً سواك هنا. هنا سقط القطار

 

عن الخريطة عند منتصف الطريق الساحليِّ.

 

وشبَّت النيرانُ في قلب الخريطة، ثم اطفأها

 

الشتاء وقد تأخر. كم كبرنا كم كبرنا

 

قبل عودتنا الي أسمائنا الأولي:

 

(أقول لمن يراني عبر منظار علي بُرْجِ الحراسةلا أراكَ، ولا أراكََ )

 

أري مكاني كُلَّهُ حولي. أراني في المكان بكل

 

أعضائي وأسمائي. أري شجر النخيل ينقّح

 

الفصحي من الأخطاء في لغتي. أري عادات

 

زهر اللوز في تدريب أغنيتي علي فرح

 

فجائيٍّ . اري أثري وأتبعه. أري ظلي

 

وأرفعه من الوادي بملقط شعر كنعانية

 

ثكلي. أري ما لا يُري من جاذبيةِ

 

ما يسيل من الجمال الكامل المتكامل الكُليِّ

 

في أبد التلال، ولا اري قنّاصتي.

 

 (ضيفاً علي نفسي أحلُّ )

 

هناك موتي يوقدون النار حول قبورهم.

 

وهناك احياءٌ يُعِدّون العشاء لضيفهم.

 

وهناك ما يكفي من الكلمات كي يعلو المجاز

 

علي الوقائع. كلما اغتمَّ المكانُ أضاءه

 

قمر نُحاسيٌّ وَوَسَّعَهُ. انا ضيف علي نفسي.

 

ستحرجني ضيافتها وتبهجني فأشرق بالكلام

 

وتشرق الكلمات بالدمع العصيّ. ويشرب الموتي

 

مع الأحياء نعناع الخلود، ولا يطيلون

 

الحديث عن القيامة

 

 (لا قطار هناك، لا أحد سينتظر القطار)

 

بلادنا قَلْبُ الخريطة. قلبها المثقوبُ مثل القرش

 

في سوق الحديد. وآخر الركاب من احدي

 

جهات الشام حتي مصر لم يرجع ليدفع اجرة

 

القناص عن عمل اضافيٍّ كما يتوقع الغرباء.

 

لم يرجع ولم يحمل شهادة موته وحياته معه

 

لكي يتبين الفقهاء في علم القيامة أين موقعه

 

من الفردوس. كم كنا ملائكة وحمقي حين

 

صدقنا البيارق والخيول، وحين آمنّا بأن جناح

 

نسر سوف يرفعنا الي الأعلي!

 

(سمائي فكرةٌ. والأرض منفايَ المُفَضَّلُ)

 

كلُّ ما في الأمر اني لا اصدق غير حدسي.

 

للبراهين الحوار المستحيلُ. لقصة التكوين

 

تأويلُ الفلاسفة الطويلُ. لفكرتي عن عالمي

 

خَلَلٌ يسبّبه الرحيل. لجرحي الأبديِّ محكمة

 

بلا قاض حياديٍّ. يقول لي القضاة المنهكون

 

من الحقيقة: كل ما في الامر أن حوادث

 

الطرقات أمرٌ شائع. سقط القطار عن

 

الخريطة واحترقتَ بجمرة الماضي. وهذا لم

 

يكن غزواً!

 

ولكني اقول: وكل ما في الأمر اني

 

لا اصدّق غير حدسي

 

 

So late I am to all

 

Tayseer Nazmi (Poems Of Exile) 2011

 

All whom I may speak with now are dead

 

Me, did nothing to be far ahead

 

Unbeliever, I stay in solitude

 

No prayers no family nor a home

 

Now ,  the darkness, flows sweeping the light

 

Drowning in despair, with nothing to remember

 

Dying in vain

 

Void from dreams

 

I see nothing around to think of

 

All the years passed rapidly

 

Catching nothing of its joy

 

Now, a man became my son

 

Finishing the boy I loved

 

Now, alike me and my intimate elder daughter

 

Lost , and insisting to be lost in the holy Quran

 

And the sad eyes of the smallest one with tears

 

Stopped to be small

 

She graduated to be just married

 

No place I have to express anything

 

No sadness nor pleasure

 

Everything seems to be the same

 

Day light is the darkness became

 

All around is the same

 

Me , the alive, and the dead days of exile

 

A desert my whole life is

 

And the eyes of a dead person I behold

 

All the dead friends me not willing to speak more

 

Since we all now understood the hopeless , jobless, helpless burdens of our life and joy

 

Stay, where you are , beating the last pulses of nothingness my boy

 

They call you a heart that is beating all the sixty years that passed

 

Then I do not nor you been told

 

When you will stop beating me to the doors

 

Or when both will be silence in silent deserts

 

Pouring nothing of value, but oil

 

All the intimates of mine are silent

 

Me was very late to follow all

 

End of 18th. June 2011-06-18 12:00p.m.

 

 

As Never A God …

 

To Rodica Feranisco…

 

Tayseer Nazmi

 

( Poems Of Exile- 19-June-2011) Sunday…

 

As never a god gave you

 

I'd given you some excuses to be far away

 

To miss the way

 

To betray

 

keep from my revolt

 

the bread of your families.

 

Yes, as never a god had done before

 

Intentionally I'd done the controversial political mistakes

 

Just to let you say;

 

That's wrong ,   he went mad and insane

 

He is leading us for nothingness

 

No reasonable his passions and emotions

 

So and so

 

Since I know

 

How much with your kids am in love

 

For I know, to be ashamed of your wives is so tough

 

I never ashamed a man among his family

 

Nor did I blinded my rich en-sighted heart

 

Give me now all the tears you hided

 

I am in need to more of them to cry

 

The camps of poverty and unfair

 

I am in need to weep all the distance to land

 

I will not ask any of you for a hand

 

I am going to the ends of my way

 

Leaving you all behind to stay

 

In life of welfare or astray

 

Chat a hey

 

In pc's

 

Or

 

Laps

 

And those who

 

Are guys and gays

 

Just keep away from the way

 

That gods are marching and marching long far

 

As never a god give you the grants of staying saying …

 

I am here alone in solitude revolting or de-revolting

 

exiles narrowing the way, returning me to my eternal grave

 

some day you all will follow e, and we will not share the same grave

 

no room will be to gossip the politics, the salaries, the joys…

 

when god is dead

 

the grave and bed will be the same

 

with no need any more to feel shame

 

as never a god had done you before

 

keep silent and away from the burning fires that the wind

 

is , smoothly, gradually, softly then stormy, bringing the peoples' anger

 

bringing my hidden ideas to life, and do not laugh when your souls will be cultivated with my own hands like ripe fruits of madness.

 

So will the desperate human soul will do, with no mercy no silences

 

God is dead

 

God is not blessing you more

 

God ended the game and relaxed tired and bored

 

He will not extend his mercy to your graves

 

He will be in need of a little

 

Just little

 

Little

 

To afford oneness

 

And solitude

 

Tayseer Nazmi ( Poems Of Exile- 19-June-2011) Sunday…

 

 

ثلاث قصائد للشاعر البولوني زبغنييف هربرت

وسيمة يونس علي

01/01/2010

توقف

توقفنا في بلدة،

أمر المضيف بنقل الطاولة إلى الحديقة،

لمعت النجمة الأولى وخبتْ، كنا نقطع الخبز،

وسمعت الجداجد ُ في نزاع الشفق الرخو ِ،

صرخة ولكنها صرخة طفل مختلفة،

صخب حشرات ورجال، رائحة تراب كثيفة،

أولئك الذين كانوا يجلسون وظهورهم إلى الجدار

أبصروا بنفسجة الآن، هضبة المشنقة،

على الجدار لبلابُ الإعدام الكثيف.

كنا نأكل كثيراً

كما هي العادة حين لا يدفع أحد.

2. مقرعة الباب

ثمة أولئك الذين يزرعون حدائق

في رؤوسهم

وتفضي الدروب من شعورهم

إلى مدن بيض ٍ ومشمسة.

الكتابة ُ بالنسبة إليهم يسيرة

يسبلون أعينهم

وعلى الفور تنساب مدارس الخيال

على جباههم

خيالي

لوحُ خشب

وأداتي الوحيدة

عصا خشبية.

أضرب اللوح

فيجيبني

نعم نعم

كلا كلا

بالنسبة إلى الآخرين جرس الشجرة الأخضر

جرس الماء الأزرق

لديّ مقرعة

من حدائق غير محمية.

أقرع على اللوح بصوت مكتوم

فيحرّضني

بقصيدة الأفاضل الجافة

نعم نعم

كلا كلا

3. ملحمة ألاّ نفنى

أولئك الذين أبحروا عند الفجر

ولن يعودوا أبداً

تركوا أثرهم على موجة

سقطت قوقعة إلى قاع البحر

جميلة كشفتين ِ استحالتا حجراً

أولئك الذين ساروا على طريق رمليّ ٍ

غير أنهم لم يكن في استطاعتهم بلوغ النوافذ ذات المصاريع

رغم أنهم كانوا قد أبصروا الأسطح

وجدوا ملاذاً في جرس ٍ من هواء

لكنّ أولئك الذين يخلفون وراءهم

فقط غرفة ً غدت باردة، وبضعة كتب،

ومحبرة خاوية، وورقاً أبيض

في الحقيقة لم يموتوا تماماً

فهمساتهم تنتقل عبر أدغال ورق الجدران،

ورؤوسهم الحصيفة لا تزال تحيا في السقف

كانت جنتهم مصنوعة ً من هواء،

ومن ماء، ومن كلس ٍ وتراب، ولسوف يسحق ُ

ملاكٌ من ريح رؤوسهم في يده

ولسوف يحملون

فوق مروج هذا العالم.

(*).زبغنييف هربرت (1924 1998): أحد كبار الشعراء البولونيين المعاصرين. نال جائزة تي إس إليوت الشعرية.

من مجموعاته الشعرية، 'وترٌ من نُور ' و'تقرير من المدينة المحاصرَة وقصائد أخرى'، و'السيد كوجيتو'. توفي عام 1998

(*)قاصة ومترجمة سورية تقيم في بريطانيا

الشاعر الإسباني خواكين بنيطو دي لوكاس في ' ألبوم العائلة' :

 

ديوان صور الطفولة والحرب والحرمان

 

د. مصطفى الورياغلي العبدلاوي

 

3/5/2010

 

 

كانت مدينة طنجة في شمال المغرب المتاخم للضفة الإسبانية على موعد مع حدث ثقافي مميز تمثل في استضافة الشاعر الإسباني خواكين بنيطو دي لوكاس Joaquin Benito De Lucas. وقد تضافرت، لتحقيق هذا اللقاء الشعري الجميل، جهود مؤسسة معهد سيرفانطيس وجمعية ملتقى الشعر الإيبيرو- مغربي التي يترأسها الشاعر والمترجم المغربي مزوار الإدريسي. وقد كان اللقاء مزدوج اللغة تحاورت فيه اللغتان العربية والإسبانية من خلال الترجمة المتبادلة سواء عند المداخلة النقدية التي اضطلعت بمهمة تقديم الشاعر وديوانه إلى الحضور أو عند قراءة الشاعر لنصوصه الشعرية بلغتها الأصلية تتلوها قراءتها مترجمة إلى العربية. أما المناسبة التي سمحت بهذا اللقاء الشعري فقد خلقها صدور ترجمة ديوان ' ألبوم العائلة' التي أنجزها الشاعر مزوار الإدريسي. وبينما كنت بصدد الإعداد للمداخلة حول ديوان ' ألبوم العائلة' للشاعر الإسباني خواكين بنيطو دي لوكاس استحضرت كلمة لشاعر آخر فرنسي هذه المرة، هو الشاعر جورج بيريك G.PERC يقول فيها: ' الطفولة ليست حنيناً، ولا رعباً، ولا فردوساً مفقوداً، ولا شَعراً ذهبياً، ولكنها يمكن أن تكون أفقاً، ونقطة انطلاق، ومعالم تسعف في تحديد معنىً لمحاور حياتي'.استحضرت هذه الكلمة إذن لأني وجدت فحواها ينطبق بكثير من الصدق على علاقة الشاعر بطفولته في هذا الديوان؛ تلك العلاقةُ المبنية على مزيج من الحب والحنين والألم والأمل، وتشعرك أن الشاعر مشدودٌ إلى عهود طفولته وعوالمها بفضاءاتها وشخصياتها وأحداثها بوشائجَ قويةٍ، أكاد أقول وجوديةٍ، لأن الطفولة لم تفارق وعي الشاعر ولاوعيَهُ معاً، وظلت تشكل جزءاً أساساً وحيوياً من شخصيته، من ماضيه وحاضره ومستقبله. فالطفولة وفضاءاتها الحميمةُ حاضرةٌ / غائبة على الدوام؛ يقول الشاعر في قصيدة العودة:

 

الآن أعود إلى بيتيَ

 

القديمِ والجديد. أعودُ

 

إلى مدينتي الضائعةِ والموجودةِ

 

كما لو أني أبداً

 

ما غادرتها، كما لو أني أبداً

 

ما عدت.

 

ويصَدِّر الشاعر ديوانه بجملةٍ، تسبق قصيدةَ الاستهلال، تضعنا منذ البداية داخل أجواء الديوان الحزينة:

 

' أبكي أعوامَ طفولتي'

 

إن هذه الجملة البسيطةَ والمباشرةَ تتحكم في صياغة أفق القارئ، فتجعله يتوقع مرثياتٍ تنضح حزناً ورقةً. ولا يخيب هذا التوقُّعُ، حيث تغلف قصائدَ الديوان هالةٌ من حزن شفيف متمكنٍ من ذات الشاعر تغذيه مشاعرُ البعد والفقد والعجز أمام الموت الذي غيَّبَ في ظلامه وجوه الأحباب: الأم والأب والإخوة. غير أن هيمنة الحزن هاته تخفي في عمق القصائد أملاً عنيداً لا يعرف اليأس وروحاً طفوليةً تتوقد حبّاً وحيويةً. حزن الطفولة يصنعه الحرمان والحربُ؛ يقول الشاعر في قصيدة موسيقى خفية:

 

يظل الجسرُ

 

يصون بين دواليه الهرمة

 

قصة أعوامي

 

وطفولتي وحرباً

 

قصمت المدينةَ إلى نصفين.

 

ذاك أصل الحكاية، ومنبع الشعر، وسرُّ موسيقاه الحزينةِ: الطفولة والحرب، والحنين والألم، وطفولةٌ اغتصبتها حماقةٌ إنسانيةٌ صرف اسمها الحرب. فليس لموسيقى الطفولة المرتجفة، يقول الشاعر، إلا أن:

 

تَرِنَّ خِفْيةً وتحلمَ مختبئةً في الرمل

 

وعندما يعزم الشاعر أن يرسم لوحةً تلمُّ صور الطفولة وذكرياتِها لا يجد سوى الحرمانِ والألم. يقول في قصيدة ' نشيدٌ للطفولة':

 

أريد أن أؤلف نشيداً

 

لطفولتي، وليست لديَّ

 

أيُّ لوحةٍ أراني فيها،

 

ولا أيُّ حصان من كرطون،

 

ولا أيُّ سيفٍ من خشبٍ

 

يتحدث عني، ولا بذلة

 

بحَّارٍ تدثرني. الذكرى

 

المسروقةُ من الزمن فقط، وصورةٌ

 

صفراء فقط في ألبومٍ منزوعِ

 

الأوراقِ، وكليشيه الذاكرة،

 

حيث في إسهابٍ

 

يتناسل وجهي

 

الذي أتعرفه بالكدّ.

 

حتى ذكرياتُ المدرسة لا تحمل سوى العنفِ والألمِ والحرمانِ المستمر؛ ففي قصيدة ' نشيد للطفولة' نقرأ:

 

وبعدُ جاءتِ

 

المدرسةُ والمعلمون

 

والأحجارُ المدفَّأةُ لاحتكاكها ببرود اليدين

 

وعصيُّ الصفصاف لاحتكاكها ببرد راحة اليدين

 

كما يتذكر الشاعر

 

ذلك المعلم ذا الخاتمِ في الأصبع

 

كان يرسم لك في الوجنة أثناء تعليمك

 

سبيلاً بنفسجياً

 

كلُّ ذلك يقول الشاعر:

 

وأنا لم تكن لي صورةٌ، ولا بذلةٌ، ولا حصانٌ.

 

لكن إذا كان الحزنُ يشغل المستوى الأول من الصورة، فإن الأمل المعاند يوازن ذلك الحزنَ ويمنح صورةَ الطفولةِ الحزينةِ إشراقةً إنسانيةً تنبعث من بين غيوم الفقر والحرمان والعنف؛ إنه الأمل الذي يمنح الإنسان القوةَ ليسبح ضد التيار. نقرأفي قصيدة ' منظور':

 

هكذا رسَمَ الأشياءَ،

 

هكذا رسمَ بيوتَ الفقر الوضيعةَ

 

بالنَّار المتقدة للأمل،

 

والمسيلَ العميقَ للنهر،

 

حيث تسبح كل الأسماكِ ضد التيار.

 

فالأمل يشغل نصفَ صورةِ الطفولةِ، بينما يشغل البؤسُ نصفها الثاني، لذا يؤكد الشاعر في آخر مقطع من الديوان أنه عندما يعود إلى طفولته يجد ' وقتاً للسعادة' و' وقتاً للألم'، ثم يقول مختتماً ديوانه:

 

وأنا أعود إلى شوارع أعوامي السبعةِ،

 

بيدين موضوعتين في الجيبين المثقوبين

 

والأملُ فوقَ القلب.

 

هكذا يلخص الشاعر في هذه الصورةِ ثنائيةَ الألم والأمل التي طبعت طفولته: يدان موضوعتان في الجيبين المثقوبين/والأملُ فوق القلب.

 

وترتبط ذكرياتُ طفولةِ الشاعر ارتباطاً وثيقاً بأفراد أسرته وبفضاء مدينته؛ بنهرها وجسريها العتيقين. فالشاعر/ الطفلُ جزءٌ من جسد مدينته، لا يمكن اختزالُ صورته من صورتها؛ الطرفان يشكلان مشهدا متكاملاً. يقول في قصيدة 'منظور':

 

أنا شأنَ الرسامين الذين يرسمون

 

الطبيعةَ، أشهدُ على حياتي

 

بالصور التي تحفظ الذاكرة:

 

شوارعُ ضيقةٌ، ونهرٌ واسعٌ،

 

وحيٌّ فقيرٌ منازلهُ واطئةٌ

 

وجسرٌ يتذكر كاتدرائيات.

 

في صميم اللوحة يحيا طفلٌ

 

- في النهر ماءٌ وفي الخدين دمٌ -

 

وهو ينظر إلى سماء حزينةٍ غيومها برتغالية.

 

وهكذا نجد الشاعرَ يلجأ، في أحيانٍ كثيرة، إلى التشبيه لإقامة تماثل بين حياة المدينة ومعالمها وبين حياته وحياةِ الناس الأقربين من حوله. ويبدو الأمر جلياً في قصيدة ' حكايةٌ وحياةٌ' حيث يقول الشاعر:

 

الطفولةُ بذراعيها الطويلتين المائيتين،

 

وموسيقى النهر، والأملُ

 

الواخزُ الذي يُدمي عند الضفتين

 

عادت إلى الظهور. حكايةُ وحياة ُ

 

مدينةٍ، نهرٌ وأطفالٌ

 

يعانقونَ الحزنَ ليلاً.

 

ومثلهم كانت الجسورُ

 

راسيةً قبالةَ سيلانِ الزمان.

 

وانطلاقاً من تلك المماثلة التي يقيمها الشاعر بين فضاء المدينة والإنسان، يصبح ذلك الفضاء آدمياً يشاركُ الناسَ مصيرهم ومآسيهم. نقرأ في قصيدة ' الجسران':

 

ذهبا إلى المدينة المثخنةِ جراحاً

 

في الصدر، وفي الذراعين، وفي الجبين،

 

المخلوعةِ الأبوابِ، المدنَّسَةِ الشرفاتِ،

 

ذاتِ الفِناءاتِ التي تُلبِسُ

 

عريَها زهوراً صفراء.

 

إن الشاعرَ مثل رسامٍ يختزن الصورَ في ذاكرته ولا تهدأ هواجسُهُ الفنيّةُ إلا حين يُفلِحُ في إخراجها لوحاتٍ فنيةً تأسرُ المتلقي ببساطتها وأناقتها ودقة خطوط الريشة التي أبدعت ملامحها. لنتأمل كيف يرسم الشاعرُ هذه الصورةَ التي يستقيها من ذاكرته فيبعثها إلى الوجود الفني بواسطة تصويرٍ بسيطٍ ممتعٍ يجمع بين انسياب الصورة السردية وامتدادها وبين عمق الصورة الشعرية وغنائيتها. والصورةُ واردةٌ في قصيدة الزيارة. وأستسمحكم في قراءة القصيدة كاملةً لأنها شأنَ القصص والصورِ السرديةِ لا يمكن الاجتزاءُ منها دون أن تفقد الكثيرَ من جماليتها، وهي على كل حال قصيدةٌ قصيرة مثل أغلب قصائد الديوان. تقول القصيدة:

 

ستظل جدتي كونشا، والدةُ أمي،

 

معي دوماً،

 

ومع ذلك، فأنا أذكرها بالكد.

 

في محياها البيضاويِّ

 

هالةُ حزنٍ،

 

وفي شعرها الكآبة.

 

ماتتْ باكراً - كنتُ وقتها مجرد طفلٍ -

 

لكنها جاءت لزيارتي

 

منذ بضعةِ أيام. ألصقت بوجهي

 

وجهها الأعجفَ الذي

 

لا عينَ به، ولا أنفَ، ولا فمَ، ولا...

 

صرختُ، بكيْتُ، لم أعرفْ

 

مَنْ كانت. نظرت إليَّ

 

في يأسٍ، وفرَّت بعد.

 

أياماً بعد ذلك، عادت ليلاً،

 

أحلى مثلما أذكرها. نظرت إليَّ- فأضاءت بسمتها الغرفةَ -،

 

وقالت لي: لا تخفْ.

 

سأظلُّ أرعاكَ ما دمتَ تحيا.

 

إن الصور التي ينتقيها الشاعر من ألبوم العائلة وينفخ فيها الحياة في هذا الديوان الرقيق والممتع والمؤثر في نفس الوقت تلقى صدى وتجاوباً عميقين في نفس القارئ، لأن الشاعر قد صاغها بلغة رقيقة منتقاة برهافة فنية كبيرة، وبصور شعرية رفيعة تجمع بين العمق والبساطة في تركيبة جمالية لا يبلغها إلا شاعر كبير متمرسٌ يجمع بين حذق صنعة الشعر ورهافة الإحساس، وكما يؤكد ' غاستون باشلار G.Bachelard' فإن كلمات الشاعر تؤثر فينا وتحرك أعماقنا عندما يفلح في انتقاء الكلمات الدقيقة المناسبة. وقد توفق الشاعر والمترجم مزوار الإدريسي من خلال تدقيق لغوي جادٍّ، وحسٍّ فني مرهفٍ، في أن يحتفظ لصور هذا الألبوم الشعري بالكثير من طزاجتها ورقَّتِها وقوةِ تأثيرها.

 

عن الشاعر ' دي لوكاس'

 

ولد خواكين بنيطو دي لوكاس ببلدة ' طالافيرا دي لارّايْنَا Talavera de la Reina سنة 1934 بطليطلة. درس الفلسفة والأدب بجامعة مدريد، وبرحابها تعرف على كوكبة من الشعراء مثل كلاوديو رودريغيث Claudio Rodriguez وكبانييرو Cabanero وساهاكون Sahagun وبرينيس Brines... وقد حصل على درجة الدكتوراه من نفس الجامعة سنة 1964. عاش وعمل مدة عشر سنوات تقريباً ببلدان عربية مختلفة، وبسورية على وجه الخصوص. كما عمل في ألمانيا أستاذاً في جامعة برلين الحرة. وقد عاد إلى اسبانيا منذ سنة 1967 حيث يعمل أستاذاً في عدد من الجامعات والمعاهد. صدر أول دواوينه Las tentaciones سنة 1964، وتوالى بعده صدور دواوينه المشهورةِ التي حازت جميعها على جوائزَ تقديرية مهمة، نذكر منها: ':Materia de olvido' جائزة أدونيس سنة 1967، و La sombra ante el espejo' جائزة ميغيل هيرنانديس 1976، و'Memorial del viento' جائزة طاغور 1995، ... أما ديوانه الأخير المترجم إلى العربية ' ألبوم العائلة' فقد فاز بجائزة تيفلوس Tiflos الشعرية.

 

- ' ألبوم العائلة'، خواكين بنيطو دي لوكاس، ترجمة مزوار الإدريسي، منشورات ليتوغراف، 2009.

 

كاتب من المغرب

 

 

مدوَّنة العودة

 

أمجد ناصر

 

4/3/2010

 

 

سُمي عشرات المثقفين الفلسطينيين الذين سمحت لهم اتفاقات أوسلو الالتحاق بالسلطة الفلسطينية: العائدين . هناك، بين مواطني الضفة وغزة، مَن سماهم التوانسة أيضاً، نسبة إلى آخر محطة من الشتات جاءوا منها. التسمية الاخيرة تضمر موقفاً محلياً سلبياً من تسنُّم هؤلاء مقاليد الشأن الثقافي في مناطق السلطة، وهذا موضوع آخر.

 

 بعد سنين من عودة هؤلاء المثقفين، لم تظهر آثار العودة في نصوصهم. أتحدث هنا تحديداً عن الشعراء. حتى الراحل محمود درويش الذي عاد ولم يعد ، لم تصنع عودته تحولاً في نصه الشعري على مستوى العلاقة مع الوطن. فالوطن، الشخصي، هو البيت، الأمكنة، الروائح والذكريات الأولى، وليس العلم المرفرف فوق المقاطعة . بيت درويش وخطوته وذكرياته وقصائده الأولى ليست في رام الله، سواء كانت محتلة أو محررة، بل في الجليل، وذلك مكان لم يعد إليه إلا زائراً بتصريح من إسرائيل مرتين أو ربما ثلاث مرات. لا أعرف شاعراً فلسطينياً ظهرت في قصائده علاقة عضوية بالمكان الذي عاد إليه في الضفة أو غزة. فالعودة لم تكن كاملة، لا على المستوى السياسي السيادي ولا على مستوى الحركة الشخصية. كانت (وظلت للأسف) عودة ناقصة. فما الذي ظهر في المدونة الشعرية الفلسطينية العائدة إذن؟ المنفى. أو الأمكنة التي عرفت الخطوة الأولى لأولئك الشعراء، سواء كانت في مخيم أو في حي عادي بمدينة عربية.

 

 ***

 

البيت والمكان الأوّلان في المدونة الفلسطينية هما صنو إيثاكا . والفلسطيني مثل عوليس في شتاته الطويل بعيداً عن وطنه، ورحلته إلى الوطن هي أوديسة تتخللها أهوال وتعترضها أقدار مُصَمْمَةٌ على رفع العودة إلى رتبة الاستحالة. ليست صدفة أن تتردد مفردات هوميرية في الإنشاء الأدبي الفلسطيني، الشعري خصوصاً، تصنع تناظراً بين الحالة الفلسطينية والتيه العوليسي.هذا ما هو مسطَّر، على الأقل، في المدونة الكلاسيكية الفلسطينية وتحديداً في أعمال الذين اقتُلعوا من أماكنهم وبيوتهم في فلسطين ولهم في البيت والمكان الأولين مرابع وذكريات. كما يمكننا أن نقع على فلسطين كمكان أول عند من لم يولدوا فيها، مدفوعين بعرف يسود عادة كتابة المنفيين، فتظهر فلسطين عندهم كمكان يطفو فوق سطح التاريخ الشخصي. كمكان ذي مواصفات ثابتة.

 

***

 

 هناك إغراء خاص في قراءة المدونة الشعرية الفلسطينية ل العائدين . فالعودة إلى فلسطين يُفترض أن تكون عودة إلى إيثاكا . نتذكر هنا وصية كفافي لعوليس: فلتضع إيثاكا دائماً في عقلك، فوصولك إليها هو هدفك الأخير، ولكن لا تتعجل الرحلة! . ليس الوصول إلى إيثاكا عند كفافي هو المهم، بل الطريق إليها، حتى وإن استمرت أعواماً طويلة وشاخ المرتحل في الطريق.ولكن، هل يكفي أن يعود المرء إلى إيثاكا كي يترجل الحنين عن أعلى صهواته، كي يحط رحاله أخيراً ويستريح؟ لا نقع على إجابة إيجابية في مدونة العائدين ، بل أخشى القول إننا نجد أنفسنا أمام العكس. هذا ما تشي به، في هذا الخصوص، بعض قصائد درويش. هذا ما تفصح عنه، بوضوح، قصائد لغسان زقطان في مديح المنفى. فإذا كانت أخبار عوليس هوميرس تنتهي بعودته إلى بيته واستقراره فيه بعد طواف وتيه، فإنه عند دانتي يضجر من العودة والاستقرار فينطلق في مغامرة جديدة. عوليس هوميروس ينعم بلقاء بنلوبي وينسى الحورية كاليبسو. أما عوليس دانتي فيحن إلى المنفى. لكن عوليس الفلسطيني لم يصل إلى نهاية الرحلة وهدفها الأخير.نعرف أن الحنين مصوب دائماً جهة المكان الأول، فهل يمكن أن يكون هناك حنين إلى المنفى؟ لست متأكداً. الشيء المؤكد أن تلك العودة ليست كاملة، ولا هي عودة حقيقية للذين ينتمون إلى أجزاء من فلسطين صارت خارج الخطاب الرسمي للسياسة الفلسطينية. أما حق العودة العتيد فليس سوى قرار يجاهد كثيرون في الغرب والعالم العربي إلى جعله نسياً منسياً.

 

http://alrai.com/pages.php?news_id=322368

 

 

 

 

آرثر رامبو في 'نعيمه' الافريقي!

 

كان يحلم بنسيان جحيم أوروبا التي فقدت روحها ولم تفهمها:

 

كلود جان كولا

 

ترجمة: مصطفى بدوي

 

المصدر: ماغازين ليتيرير- أيلول / سبتمبر2009 - العدد:489 - ص 84 /85.**

 

2010-09-14

 

نرحل في هذا المقال مع آرثر رامبو وقد طلق الشعر لصالح الإغواء الافريقي الذي سكنه صغيرا وهو على طاولات المدرسة رفقة صديقيه بول بورد وجيل ماري. كما سنكتشف السحر ـ لا الشعر!! - الذي مارسه رامبو على الأفارقة الذين عايشوه وتعاملوا مع صمته باجلال استثنائي وكأنه واحد منهم.فهل ودع رامبو الشعر ومعه (فصل في الجحيم) الباريسي كي يفتح في افريقيا (ه) فصلا في النعيم؟فإلى تلك الوجهة القصية التي احتضنت عملاق الشعر الفرنسي سيبحر بنا كلود جون كولا متقفيا أثر العابر في مجاهل الصحراء ..! (المترجم)على طاولات المدرسة، تظهر افريقيا لأول مرة وآرثر رامبو يبلغ من العمر أحد عشر عاما، كان بول بورد وجيل ماري أفضل أصدقائه. وهم يحضرون رحلة استكشافية لسبر أغوار منابع النيل كانوا يتقاسمون اللغات الأساسية، بالنسبة لبورد كلف بالعربية لعبور مصر وبالنسبة لماري بالبرتغالية لغة كبار المستكشفين وفيما يخص رامبو - هل كان ذلك هاجسا؟- خصّوه بالأمهرية لغة الحبشة. كانت افريقيا تمنحهم حلما بالشساعة والمجهول، بالمغامرة والمجد، بيد أن المشروع تبدد عندما غادر بورد المدرسة.تراءت له افريقيا، من جديد، خلال الأعوام الشعرية أكثر مثالية من ذي قبل. كان آرثر مشدودا الى عذريتها المتوحشة، الى البراءة التي يسمح بها جهلها في الكشف. عندما كان مضطرا للبحث عن السلام وهو المعمد المطلع على معرفة الخير والشر، آه ..كم هو سعيد ذاك الذي يعيش في الجهل، لأنه لا يستطيع أن يتعرض للادانة! بلا ممنوعات، بلا واجبات، وحده يستطيع معرفة (السلام داخل الحرية) الذي يلح عليه رامبو بالنسبة لكرامة الانسان. ان سارد (فصل في الجحيم) يحلم بأن يلتحق ببلاد أبناء (حام) التي تقول لنا التوراة انها الحبشة، وهنالك يحلم السارد بقدرته على نسيان رفاق الجحيم و كذا جحيمه الشخصي الذي هو هذه الـ (أوروبا) التي فقدت روحها ولم تفهمها!!!كان على رامبو أن ينتظر عام 1876 ليدرك ضفاف افريقيا .لقد التزم بشكل تطوعي في الجيش الكولونيالي الهولندي على متن الباخرة ...Prins van oranjeبعد ذلك بأربع سنوات، هرب من قبرص ليلاقي البحر الأحمر، بحث يائسا عن عمل فوجده في عدن موظفا في دار التجارة. كان يحس بالضجر، بسرعة، خصوصا وأن افريقيا التي أمامه تجذبه اليها كما لو كانت مغناطيسا قويا. إذا، ما الذي حدث؟ الشهادات قليلة وتقول ان الرجل كان جديا وشجاعا وصارما، ورسائل التجارة لا تتحدث الا عن القهوة وريش النعام، عن سنور الزباد أو العاج، عن المشحون المجاني للغرب الذي يسمح بالحصول على عملة التبادل، وعن حقوق الجمارك وتأخيرات الدفع والأرصدة واعتبارات سياسية نادرة وبعض الملاحظات الجغرافية. أما عن حياته الحميمية، فوحدها رسائله الى أمه هي التي تنبئنا عنها، هذه الرسائل التي تحظى لديها (الأم) بشعور من الاجلال والحب، والحال أن هذه الرسائل هي شكاوى من دون نهاية: الحياة قاسية والطقس صعب الاحتمال، والأفارقة لا يحتملون والحافز الأوحد هنا هو جمع الثروة ...و(يخبر أمه / المترجم) أنه سينطلق قريبا الى زنجبار أو الى باناما أو الى آسيا ..من خلال هذه الشكاوى، نستنتج أنه كره فجأة افريقيا لكن لو كان ذلك صحيحا لماذا لم يرحل - وهو القادر على التنقل - في اتجاه آخر، في اتجاه مجهول ما؟؟! لو كان ذلك صحيحا، لماذا وهو على مشارف الموت فوق سريره حيث كل الأكاذيب أو المخاوف لا معنى لها، لم يكن يحلم الا باللقاء بافريقيا(ه)؟؟؟!حتى نفهم علينا أن نعيد قراءة الحكاية من منظار مزاجه..!كانت حياته الافريقية صعبة، كان وحيدا بالمرة وكان يحتمي من كل تطفل على ماضيه الشعري، بأن يقول: 'كل ذلك لم يكن سوى ماء آسن!' كي يحسم الأمر باختصار.الدليل هو هاتان الرسالتان اللتان تخبرانه بشهرته التي ولدت في باريس، واللتان نحتفظ بهما سليمتين مما يعني أنه لم يرمهما بل أخذهما ملفوفتين جيدا ضمن متاعه البسيط عقب هذا الهبوط التراجيدي على متن نقالة بسبب المطر وسط الوحل..ليس الأمر سهلا، فقد هوجمت القوافل والأمطار كانت تمنع العمل بالتجارة خلال أشهر طويلة كما أن التعقيدات الادارية زادت الطين بلة. اللحظات الوحيدة للانتشاء هي توقعات الرحيل، فيتحمس ليطلب من أمه أن تبعث اليه بكل أنواع الكتب التقنية أو العلمية، وكأنه سيبني عالما جديدا. بالنسبة لرسائله الى أمه فقد كتبها عندما كان يجد الوقت لذلك وفي أويقات الجمود التي هي بالنسبة اليه أزمنة الضجر. ثم انه الابن المفوض برفع الكلفة ازاء أمه، الوحيد الذي حلمت (أمه) بأنه سيعود ليقضي معها ما تبقى من عمر، فاشترت له قطعة أرض مباشرة أمام ضيعة العائلة.كانت كلها آذانا صاغية وكان يريد إرضاءها وجعلها تحس بالأمومة والحب بشكل عام. لقد اعترف ذات مرة بأن هذه الشكاوى كانت طريقة في الغناء. لقد كان بين البيض لكنه كان أكثر اندماجا وسط المجموعة السوداء. دليل من بين دلائل متعددة هو هذه الرحلة لسنة 1886 لبيع الأسلحة لـمينيليك (حاكم هرر/ المترجم)، حيث كل القوافل تم نهبها والسطو عليها، وتم قتل التجار وهو الابيض الوحيد في هذه البعثة الذي خرج ومعه 2000 بندقية و7500 خرطوشة والبضائع كانت جد مغرية!! فلماذا لم يتم قتله؟ من هو، اذا، هذا الرجل الشيطان؟ وما الفرق بينه وبين الآخرين؟؟!يقول الشاعر الصومالي ادريس يوسف علمي: 'كان يعرف كيف يعطي، من هنا صار يحظى بالاحترام. البدو الرحل - كيفما كانوا عفاريين أو صوماليين - لديهم هذا المعنى بالعطاء، يعطون الكلمة، يعطون ما يملكون حتى لو كان لديهم القليل فانهم يقتسمونه (مع الآخر ـ المترجم)، وذكاء رامبو كان اكتساب ثقتهم باكتساب بعض قيمهم، ومنذ تلك اللحظة صارت لديه السلطة عليهم'.(شهام وطا) شاعر هو الآخر عفري يؤكد الرؤية ويقول: 'كان لديهم الوقت الكافي لملاحظته في تاجورا (بلدة في جيبوتي / المترجم)، تصور يرونه يوميا قرابة عام!.. لقد وزنوه وجربوه، ماذا يريد هذا الأجنبي؟ من يكون..؟ كيف يتصرف ..؟ ماذا يساوي ..؟ لقد رأوا شجاعته كما رأوا غضبه، والبدو الرحل يفضلون القوي جسديا وشفاهيا، أيضا أسعفته حالات غضبه، كان يقول لهم ما يعتقده فيهم وهذا لم يكن ليصدمهم، لأنهم هم الآخرون لديهم هذه العادة، هذه الشجاعة في عدم الكتمان. فبعد أن انطلقت القافلة، استطاعوا التأكد من تقييمهم: تحمله المشي ومقاومته للجوع والعطش ..الخ. مظهر آخر لرامبو أغرى العفاريين وهو صمته. ففي القافلة لا يقال الا الضروري. نستطيع البقاء عشر ساعات دون أن نتحدث الشيء الذي لا يعني أننا لا نتواصل. فمن خلال الصمت يمر حوار وتشارك دونما حاجة الى الكلمات. كان رامبو يتحدث قليلا وكان يحترم صمت العفاريين، لقد صار واحدا منهم'.لقد كان رامبو يعيش حياة زاهدة، يلبس القطن العادي ويعتمر طربوشا صغيرا على رأسه، ولا وجود أبدا لملمح العجرفة الكولونيالية التي للبيض الاخرين عليه.زاهد وصموت، متحفظ وذو كبرياء، غضوب ومتطوع صبور، مزاجه كان قريبا في الحقيقة من مزاج العفاريين بل كان مثلهم!ان آرثر رامبو مدين باعادة بنائه الذهني لافريقيا ونذر لها اعترافه وحبه. وفي اشارة أخيرة طلب أن يحول جزء من أمواله الى خادمه (جامي). ولكي تحقق أمنية أخيها شرعت (ايزابيل) في البحوث ولما وصلت تلك الأموال الى هرر (بلدة في أقصى شرق اثيوبيا / المترجم) كان جامي قد مات فتسلم أبناؤه هبة رامبو...!!!

 

 

 

فريدريش هولدرلين: الزواج بالشعر!

 

أندلس الشيخ

 

5/19/2010

 

مـا إن يرد المرء يومـاً هجـر الأعراف والتقـاليد السائدة في وسطه الاجتمـاعي، ليختار لنفسه طريقة حيـاة غريبـة عمـا هو مألوف، حتى تبـدأ عيون الآخرين ترميه بنظرات استنكار، وحتى تبدأ ألسنتهم بالهمس بلفظـة ' غريب' أو ' مجـنون'. وكأنه يتوجب على الإنسان، إن عزم على العيش بين أقرانـه، الإحكـام جيداً على تعابيره الداخليـة، والانصياع، وذلك من دون اعتراض، إلى جملـة القوانين والأخلاقيـات التي تحكم مجتمعـه، وإلا لأدارت الأكثرية ظهرهـا له، ولنبذتـه بعيداً عنـها. ولطـالمـا كان التمرد روح الشعر، ولطـالمـا كان الرفض رأسماله، أبى فريدريش هولدرلين 1770ـ 1843 على نفسه الرضوخ إلى مـا كانت تمليه عليـه الأغلبيـة أيـام عصره، صامـاً بأذنيـه إلى تشريعاتهـا وقوانينهـا، ومصغـياً إلى صوت الشعر وحده وإلى إيحـاءات الخلق الفني، لاغير.ولكن من هو هولدرلين هذا الذي يسميه مـارتين هايديغـر ' شاعر الشاعر'، والذي خصه الفيلسوف الألمـاني بالعديد من دراساته وأبحاثـه، ملخصاً مسيرته الإبداعية بهذه الكلمـات : ' حب المنفى الطواعي للعثور يومـاً ما على مسكنٍ فيمـا هو خصوصي عند المرء، هذا هو القـانون الأساسي للمصير الذي يتيـح للشاعر تأليف قصة وطنـه'. قبل الحديث عن هولدرلين وعن تجربتـه الشعرية التي قد تكون من أكثر التجـارب الفنيـة تفرداً في تاريخ الشعر الألمـاني على وجه الخصوص والأوروبي على وجه العموم، يمكننـا القول أن كلمـات هـايديغـر هذه تنطبق أيضـاً على مؤلف ' إشـراقـات'، آرتر رامبـو الذي يجمعه مع الشاعر الألماني، ' حب المنفى'، رفض الثقـافة الأم والسعي ' مشـياً على الأقدام' إلى البحث عن عبـارة شعرية جديدة وعن وطن جديد. ولد يوهـان فريدريش هولدرلين في منطقة ' شفابين'، في إقليم ' بادن فورتيم بيرغ' حاليـاً، وما إن بلغ الثانية من عمـره حتى فقد أبـاه وهو طفل صغير، ومن ثم زوج أمه، التي كانت قد دفعت به يافعـاً إلى تعلم اللاتينية، اليونانية والعبرية، سعيـاً منهـا إلى أن يصبح ولدهـا مثل أبيه، باستوراً بروتستانتيـاً. وما إن بلغ هولدرلين الثامنة عشرة من عمره حتى التحق بالمدرسة العليـا البروتسـتانتية لعلوم اللاهـوت في توبينـغن، حيث التقى باثنين من أهم رواد الفكر والأدب الألمـاني، غيورغ هيغـل و جوزيف فون شـيلينغ. وخلال سنوات دراسته بين العام 1788 و1793، كانت فرنسا قد شهدت الحدث التاريخي الأهـم الذي غـيَّر وجهها السياسي، الحضاري والفكري، وهو الثورة الفرنسية، مجسداً بسقوط الباستيل في العام 1789. ترك هذا الحدث الاستثنائي عند الجيران الفرنسيين أثراً كبيراً في نفوس الطلبة هيغل، شيلينغ وهولدرلين الذين قاموا بزرع شجرة على ضفاف نهر النيكار المـارّ بتوبينـغن، معبرين بذلك عمـا في داخلـهم من توق للحرية ومن أمل في أن تهب رياح التغييـر على بلدهـم ذات يوم. وفي الحقيقة، لم يكن ليروي غليل الشاب هولدرليـن ما كان قد تعلمه مع هيغـل وشـيلينغ من علـوم اللاهـوت، ولم يكن ليقنعـه ما كان متداولا ً في عصـره من رؤى ونظريـات في الفلسفة والأدب والفن، وهو الذي كانت تربطـه بالشعر علاقـة حميمـة، إذ كتب أولى قصائده وهو في الرابعـة عشرة من العمـر. فلا كلاسيكية غوتـه ولا رومانسية شـيلر، ولا حتى ديالكتيـة رفيقه على مقاعد الدرس هيـغل، كانت لترضيه، وهو المتطلع إلى تقديـم طرح جمـالي جديد في المشهد الثقافي الألمـاني عبر الخلق الفني، وتحديداً عبر المقولـة الشعريـة. عدم الرضى هذا والتعطش إلى إيجـاد إبداعيـة حديثـة، دفعا بمؤلف ' هيبـريون' إلى الرحيل عن وطنـه بحـثاً عن حقـائق مبتكرة، بعدما كان قد عمل، من حين إلى آخـر، كمربّ ٍ في دور العائلات البورجوازية في العديد من المدن الألمانيـة، كهامبورغ، وفرانكفورت وشـتوتغـارت. وها هو في العام 1801، يحمل حقيبتـه متوجهـاً إلى جنوب فرنسـا، للعمـل عند عائلـة القنصل الألمـاني في مدينـة بوردو. وقبل سفره هذا، كان هولدرليـن قد أطلق بهذه الكلمـات التي تذكرنا إلى حدٍ ما بمـا كان يسعى إليـه المشّـاء رامبـو من وراء رحلتـه إلى أرض اليمـن : ' بوسعي الآن إدراك حقيقـة جديدة، ورؤية أفضل، وذلك بشكل كبير، عنَّـا نحن وعمـا يحيط بنـا'. وعلى عكس الشاعر الفرنسي الذي بقي سنين طويلة في مدن وحـاضرات اليمـن، كانت إقـامة هولدرلين في فرنسا قصيرة نوعـاً ما، إذ عاد أدراجه إلى نورتينغـن، بعد علمـه بموت المرأة التي كان قد شُـغِف بها أيام عمله في شتوتغارت، زوزيت غونتار، والتي كان يسميها في كتاباته، ديوتيمـا، تيمنـاً بالكاهنـة ديوتيمـا، التي أعلمت سقراط عن قدسية الحب في ' وليمـة' أفلاطون. كان موت زوزيت صاعقـاً لهولدرلين، الذي قرر الرجوع إلى بلاد الراين في العام 1802، قاطعـاً، وهو في حالٍ يرثى لها، جزءاً كبيراً من رحلته مشياً على الأقدام. هذا الحدث الأليـم، غيَّـر مجرى حيـاة الشاعر، إذ انكفـأ على نفسه حال وصوله إلى بلـده، ليعتزل أهلـه وأصدقاءه، وليجد في التكوين الشعري ملاذاً له بعد فقده ديوتيمـا، التي ظل يستحضرهـا في مؤلفـاته كما يمكننـا قراءة ذلك في هذه الأبيـات من ' موت أمبيدوكليس':

 

وجهـراً، نذرت قلـبي

 

إلى الأرض العَليلـة والمُعذبـة

 

وفي الليـل المقـدس

 

غالبـاً مـا وعَـدُتها

 

بأن أحبهـا بإخـلاصٍ

 

حتى المـوت

 

دون خـوف، مع عـبء المصيبة المضني

 

ومن دون أن أهمـل

 

أيـاً من أسرارهـا.

 

هكـذا، قََـيدت نفسـي بهـا

 

بوثــاقٍ فــانٍ.

 

كان نيتشـه، لكي يُعبر عن أنَفتـه من الألمـان، يحشو كتاباته ومـآثره بكلمـات من الفرنسية، كمـا فعل في ' إنساني، جداً إنساني'، الذي أهداه، نكايـة بأبنـاء قومه، إلى فولتيـر. أمـا هولدرليـن، الذي أخذ البعض يرى فيـه نصف مجنـون لاعتـزالـه النـاس و لـتدلُهه بالشعر بعد غياب ديوتيمـا، كانت له طريقتـه في ازدراء أبنـاء ثقافتـه، وذلك عبر تجـاهله للتيارات الأدبية والفكرية التي أخذت بالازدهـار في ألمانيا مع ظهور الفلسفة الكانطيـة، حيث آثـر الرجوع إلى الماضي للنـهل من الإرث الفني عند اليونـانيين القدامى. وهذا ما دفع به إلى العكوف على ترجمـة سوفوكليس، معيـداً النقل إلى الألمـانيـة باثنين من أشهر مسرحياته التراجيديـة، ' أنتيغون' و ' أوديب'. في تلك الآونـة، لم يفهم الكثيرون من معاصري هولدرلين ما كان يريده من إعادته لترجمة أعمـال الشـاعر الإغريقي، إذ اعتبر شيلينغ، كما كتب يومـاً في رسالة إلى هيغل، نوعاً من أنواع الجنون ما كان يقـوم به صديقه في توبينغـن. لربمـا كان على هولدرلين، أن ينتظر القرن العشرين وأبحـاث مارتين هايديغر وفالتير بنيامين وموريس بلانشو لإنصافه وللكشف عن قيمة ترجمتـه الجديدة لسوفوكليس. فهو ما كان يبغي يومـاً ترجمـة ظاهر النص اليوناني، بل باطنـه و ما هو خفيٌ بين السطور، جاهداً على الإيصال إلى النص الألمـاني بجموح وتصوف الروح الإغريقـة، التي يبدو وكأنهـا ليست سوى النقيض لمنهجيـة وعقلانيـة الثقافة الجرمانية والغربيـة على حد السواء. ففي رسالة بتاريخ 28 أيلول ( سبتمبر) من العام 1803، خطهـا إلى صديقيه كـازيميـر بولينـدورف، كتب الشاعر الألماني هذه الكلمـات التي يبين فيهـا ما كان يصبو إليه من ترجمته لتراجيديـا سوفوكليس : ' أرغب في تقديم الفن الإغريقي إلى الجمهور بطريقة أكثر حيوية عما هو معهود، الفن الإغريقي الذي هو غريب عنا بإجماع قومي مع الأخطاء التي قَبـِل بهـا كيفمـا كان، وذلك من خلال الإظهـار، وبشكل أفضل، للعنصر الشرقي الذي لم يعترف به، وبتقويم الأخطاء الجمالية أينمـا وجدت'. بالإضافة إلى وضعـه اليد على ما هو شرقي في الحضـارة اليونانية القديمـة عبر تقديمه إلى الثقافة الألمانية، و بحُلة ' مشرقنـة'، بمسرحيات سوفوكليس، مضى هولدرليـن إلى ترجمـة واحد من كبار الشعراء الإغريق، بينـدار، حيث عثر في أناشيد هذا الأخيـر على أسلوب الاقتضـاب، وعلى الميول الرؤيـوية والقدسية الكامنة في الغنائية الشعرية. وقد تُحيلنـا مراجعتنا للجذر الإيتمولوجي لكلمـة 'شعر'، ' nuthciD' بالألمانية، القادمة من اللاتينية من كلمة 'eratciD' التي تعني عند الآباء الكنسيين ' المصدر الإلهي للكتابة'، إلى فهم سر اهتمـام هولدرلين بكتابات الشعراء الوجدانيين من أمثال بينـدار، الذي نجد في قصائده ربطاً وثيقـاً ما بين عالم التكوين الشعري وعالم المقدس. ففضلاً عن كونه تعبيراً عن فيضانات الداخل الحسيّة، كان هولدرلين يرى في الشعر الغنائي السبيل إلى إدراك الأسرار السماوية وإلى اكتشاف ما هو فوق دنيـوي. فكما كانت الغنائية عند اليونانييـن القدامى، تنصتـاً لكلام الآلهـة وترجمته فيمـا بعد عبر قصائد إلى العـامة، كان الشعر بالنسبة لهولدرلين ارتقـاءً لروح الشاعر الهائمة بالمطلق من أجل تصـيد حقائق عُلويـة، ومن ثم كتابتهـا في جُمـلٍ شعرية و تمريرهـا إلى سائر الخلق، على نحو ما يقوله الشاعر الألمـاني في هذه الأبيـات:

 

مع هذا، وتحت أعاصيـر الـرب،

 

ينبغي علينـا

 

أيهـا الشعراء

 

أن نبقى مكشوفي الرأس

 

أن نَقبض على ألـق الـرب، بأيدينـا

 

و أن نُقـدم الهبـة العُلويـة إلى الناس

 

لأننـا الوحـيدون

 

الذين لنـا قلب صاف ٍ

 

وأيـاد ٍ بريئـة كالأطفـال.

 

كـالناسك الذي قرر الابتعـاد عن الناس سعياً منه إلى الوصول إلى ما تسميـه المتصوفة بـ ' الزواج الإلهـي'، انقطع هولدرلين بمحض إرادتـه عن العالم الخارجـي، ليمضي أكثر من ثلاثيـن عـامـاً في منزل النجـار إرنيست تزيمـير، حيث انتهى به الأمـر إلى الهيام بالشعر وإلى ما نسميه جُزافـاً بـ ' الزواج الشعري'. وخلال إقامتـه عند عائلة تزيميـر، توقف الشاعر الألمـاني عن الكتابة، ليصنع من باقي أيـام عمره، قصيدة حيـة تحكي قصة رجل طلّق الدنيـا ومن عليهـا، مفضّلاً العيش على هوى الشعر وحسب أصوله وأحكامه. وبالرغـم من أن هولدرلين لم يكن غزيراً في نتـاجه الأدبي، إلا أن صوتـه الشعري الصافي يُعد مؤسِسـاً للشعر الحديث في أوروبـا. فكمـا كانت بضع قصائد سوداء لبودلير كافيـة لقلب معايير الشعر الفرنسي المعاصر، كانت حفنـة أناشيد سرق بهـا هولدرليـن من أفواه الآلهـة، كفيلـة لأن تكون مصدر وحي للعديد من التجـارب الشعرية الاستثنائية في الثقـافة الغربية، كتجربـة بييـر جـان جـوف و بـول تسـيـلان.

 

كـاتب مقيم في ألمانيـا

 

 

أمل دنقل وقصيدة النثر

 

صبحي حديدي

 

6/28/2010

 

في حوار أجرته اعتماد عبد العزيز، ونشرته مجلة 'إبداع'، سنة 1984، سُئل الشاعر المصري الكبير الراحل أمل دنقل (1940ـ1983) عن رأيه الصريح في قصيدة النثر، وفي الموقفَيْن منها: ذاك الذي يقول إنها أرقى ما يمكن أن يُقدّم اليوم في الإبداع الشعري، وذاك الذي يصرّ على أنها قصيدة العجزة والفاشلين. قال دنقل: 'إذا كان الإيقاع عنصراً هاماً جداً من عناصر التوصيل بين الشاعر والقارىء، فلماذا نتخلص بأيدينا من هذا العنصر، خاصة إذا عرفنا أنّ الإيقاع في الشعر بالنسبة للأذن العربية والمستمع العربي هامّ جداً؟ وأنا أرى أنّ الفيصل في أي لون أدبي هو الوصول للناس. فهل استطاعت قصيدة النثر حتى الآن أن يكون لها جمهور حتى بين المثقفين؟ هل استطاعت أن يكون لها خصائص فنية مستقلة عن القصيدة الحديثة؟ لا أعتقد أنها فعلت ذلك'.الأرجح أنّ الراحل، الذي مرّت ذكرى ولادته السبعون قبل أيام، كان ـ مثل العديد من الشعراء والنقّاد، آنذاك ـ يراهن ضمنياً على أنّ شكل قصيدة النثر لن يعيش طويلاً، أو أنّ هذه القصيدة سوف تبقى حكراً على عدد محدود من الشعراء الذين شرعوا في كتابتها منذ أواخر الخمسينيات (أمثال محمد الماغوط وأدونيس وتوفيق صايغ بصفة خاصة)؛ ولن يكون لها حظّ عند الأجيال الشابة من الشعراء. ولقد تبيّن، بالطبع، أنّ موجة قصيدة النثر لم تكن عابرة بل عارمة، فلم ينقضِ وقت طويل حتى تسيّدت أشكال كتابة الشعر في مستوى الكمّ، وبات من النادر اليوم أن نعثر على صوت شابّ جيّد يكتب قصيدة التفعيلة، فما بالك بعمود الخليل!ولقد سبق لي أن ساجلت بأنّ تطوّر مشروع دنقل الشعري كان كفيلاً بتحقيق مقدار متقدّم من 'ضبط التوازن' المطلوب بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، إذا جاز الحديث عن هذا الطراز من التوافق في التجارب الإبداعية والجمالية، وفي حياة الأشكال الشعرية بصفة خاصة. وكنت، وأظلّ، أرى أنّ شعر دنقل في خصائصه الراهنة، بعد 27 سنة على رحيله، يشكّل حليفاً طبيعياً لمعظم أصوات قصيدة النثر العربية المتميّزة الراهنة؛ فكيف لو أنّ الشاعر بقي على قيد الحياة، وارتقت شعريته إلى مصافّ أعلى، كما في وسع المرء أن يرجّح بقوّة، واتسع نطاق موضوعاته، واغتنت تشكيلاته الإيقاعية؟ جدلية كهذه ما كانت ستتحقّق على صعيد القارىء وحده، بل لدى الشاعر أيضاً، في ظنّي؛ وكنّا سنشهد المزيد من أوجه تكريم دنقل عند بعض أبرز أصوات قصيدة النثر المصرية المعاصرة، أمثال علاء خالد وعماد أبو صالح وياسر الزيات وزهرة يسري وجرجس شكري ومحمد خير (في الفصحى كما في المحكية المصرية)، فضلاً عن الراحل أسامة الدناصوري.وكما أنّ قصائد محمود درويش وسعدي يوسف وأدونيس (حين يكتب التفعيلة) تظلّ حليفة قصيدة النثر العربية، وليست البتة خصمها اللدود، القريب أو البعيد؛ فإنّ قصائد دنقل كانت ستأخذ المنحى ذاته، بل كانت ستتجلى بزخم أوضح داخل المشهد المصري تحديداً. وأغلب الظنّ أنّ آراء الراحل حول موسيقى الشعر والوزن والإيقاع، والتي قد تبدو اليوم محافظة أو متشددة، كانت ستشهد تحوّلات ملموسة بفعل التطوّرات الكبرى التي شهدتها نظرية الشعر في عصرنا. وهذا استنتاج لا ينهض من فراغ، إذْ ثمة في أحاديث دنقل وأفكاره النقدية سلسلة مواقف تقدّمية، وآراء ديمقراطية مرنة، إزاء أشكال كتابة الشعر.والراحل يقول، في حوار نشرته 'فصول' سنة 1981: 'الشعر الجديد لم يكن ثورة موسيقية، ومن هنا فإنّ مسألة إيقاع، وموسيقى العصر، مسألة أخرى تماماً. وما أراه أنّ الشعر الجديد هو خروج بالبناء الشعري من إطار الموسيقى إلى الإطار التشكيلي أو التصويري. وهذا التطوّر في الشعر كان يجب أن يتمّ منذ سنوات طويلة، وقد جاء نتيجة لأنّ القصيدة بعد أن كانت محفلية، أو مسموعة، أصبحت مقروءة. وقد كان يجب أن يتمّ هذا التطوّر في الشعر في عصر النهضة وظهور الطباعة وانتشار المجلات والصحف. ويترتب على ذلك إلغاء اللوازم الموسيقية المتعلقة بالسمع، أو بالأذن العربية، واعتماد القصيدة على الوسائل البصرية، وهي الأقرب إلى التشكيل'.هل يتوفر شاعر واحد، يكتب قصيدة نثر ناضجة، يمكن أن يعترض على هذا الكلام، أو يرى أنه لا يمثّله، نظرياً في الأقل؟ ألم تثبت أقدار قصيدة النثر العربية الراهنة أنّ معظم 'التجاوز' في التجريب الشعري يقف عند دائرة اللغة وحدها وعند الشكل، حسب تشخيص دنقل، فكان أن 'تحوّل الشعر الحديث إلى شعر مثقفين، في حين أنّ وظيفته الأساسية هي في ارتباطه بالناس'؟ أليس شيوع 'قصيدة التفاصيل' و'القصيدة اليومية' هو نوع من مصالحة 'نثر الحياة اليومية'، وهو مادّة قصيدة النثر في نهاية المطاف، مع حياة الشارع وشعريات البشر؟وكيف يصحّ الاعتراض على خلاصة بدهية، مثل هذه التي قال بها دنقل: 'التجاوز للواقع يحتاج إلى تجاوز للطرائق الفنية التي يتمّ بها التعبير عن هذا الواقع، واستحداث طرائق بديلة، واستجلاب لمذاهب فنية. أما اللجوء إلى الإيهام بمحاولة تغيير الواقع، [فإنه] الإيهام بالثورة عن طريق ثورة شكلية فقط'؟

 

 

بنيلوب التاريخ والأسطورة

 

خيري منصور

 

6/5/2010

 

خمسة شعراء عرب على الأقل في مقدمتهم السياب، حاولوا استثمار اسطورة بنيلوب شعرياً، وكان الربط المباشر غالبا ما يتم بين فلسطين وعوليس الذي تاه في البحار، فهي تجلس على الشاطىء تنسج الطيور على قطعة من القماش بانتظار عودة الحبيب، وتتأمل في أسى ورجاء الأفق الذي قد ينشق ذات غسق عن عوليس، ولم يتنبه هؤلاء الشعراء الى عنصر الزمن، فكأنه متخثّر وجامد بانتظار عودة العاشق من منفاه الأزرق، الى ان عالج ريتسوس اليوناني هذه الاسطورة شعريا فأحدث انقلابا بنيويا فيها، لأنه أدرك دور الزمن، فجعل عودة عوليس فاجعة بدلا من كونها عرساً، لأن بينيلوب التي شاخت وهي تطرّز الطيور، فاجأها عوليس فور عودته بأنه رجل آخر، عجوز ملأت الندوب جلده، وتحولت اعوام الغربة والانتظار الى تضاريس من التجاعيد التي حجبت صباه وألقه القديم.. عندئذ سخرت بنيلوب من نفسها ومن شيخوختها العقيمة، ومن ذلك الانتظار الذي حذف الزمن من المعادلة الصعبة.لم يخطر ببال الشاعر العربي وريث أدبيات الدهر والأبدية المتعالية عن التاريخ، ان فلسطين لن تبقى مكانها على الشاطىء تطرّز الطيور، وان ما استوطنها وحل فيها من الغرباء لن يقفوا قبالة الشاطىء يتفرجون على هذه الدراما.عشرون عاما بين لجوء عام 1948 ونزوح عام 1967، او اذا شئنا استخدام مفردات معجم هذه الدراما بين النكبة والنّكسة، خلالها ولد جيلان على الأقل في الوطن والمنفى، ولم يكن الشعب المهاجر خلال تلك الاعوام يجوب البحار بعد ان انعطبت بوصلته وضلّ الطريق، كان يعيش ويتكاثر ومنه من حاول التأقلم مع المنفى لأن الحياة تعيد تنظيم نفسها، بقوة الغريزة ونوازع البقاء، لهذا امتاز الاغريقي ريتسوس عن زملائه من الشعراء العرب الذين تناولوا الاسطورة ذاتها بأنه كان على وعي عميق بعنصر الزمن والتحولات التي تطرأ على الناس خلال فترة الانتظار التي غالبا ما تنتهي الى مفاجأة غير سارّة...

 

كانت باخرة الحرية التي ارتطمت بجليد الاحتلال مناسبة لاستذكار بنيلوب وعوليس، فمسرح الأسطورة هو هذا البحر ذاته، وربما في المدار الأزرق الشفيف ذاته ايضا، وكم يسهل علينا ان نرى غزة اشبه ببنيلوب التي تطرّز الطيور وتنتظر على الشاطىء، كما ان عوليس يصارع الامواج كي يعود اليها، لكن التاريخ ليس اسطورة الا بقدر ما تتسرب شحنة الاسطورة اليه وتضيف ذلك البعد التراجيدي الذي يدفعه الى التفوق على أمواجه وبالتالي على ثنائية المد والجزر، او بمعنى آخر على ثنائية النصر والهزيمة. عوليس الفلسطيني او العربي او الانسان على اختلاف الاسماء ومساقط الرؤوس والجنسيات حاول العودة الى بنيلوب لكنه تأخر عن أوانه رغم ان العشق بخلاف كل شيء آخر يجترح أوانه في التقاويم،ولا يبدو متأخرا عن موعده او متقدما عنه. ان ما اضافه التاريخ في بعده الحدثي الى الاسطورة هو الدم، فالماء اصطبغ به في ذلك المدار الذي تحول الى ساحة صراع غير متكافىء بين النورس وسمكة القرش. ومن كتبوا عن أسْطَرَة التاريخ، او تاريخانية الاسطورة، أدركوا حبل السرّة السرّي بين ذلك المتخيّل وهذا الواقع، لأن الخيال احيانا هو واقع بالغ التركيز، فهو ذاكرة معاد انتاجها لكن وفق دربة أخرى ومران آخر، ولو شئنا تقريبا حسيا لهذه الجدلية، فإن ما يحدث لنا في حياتنا اليومية من تجارب، غالبا ما نعيد انتاجه محررا من الأخطاء، لكأننا نستدرك النّقصان فيه، رغم ان الاسطورة بخلاف التاريخ تتغذّى بالمزيد من نقصانها لهذا فهي تقبل الإضافة، وبالتالي التأويل الذي لا آخر له، وبامكان شاعر آخر ان يفترق عن ريتسوس ايضا، ويتخيل عوليس وقد تزوّج في الغربة، وبمرور الوقت انشغل عن بنيلوب، وكم أدهشني ذات يوم ما كتبه اسرائيل شامير وهو ليس شاعرا، عن القدس التي تصور غزاتـُها أنها جالسة بكامل عذريتها تنتظر الاسخريوطي الجديد. يقول شامير انها تزوجت وهو آخر من يعلم وأنجبت اطفالا اصبحوا رجالا، هم أهل المدينة من الفلسطينيين، لكن الغازي الأشبه بدون كيشوت كان يضلل راويته سانشو ليعود بين وقت وآخر كي يروي انتصارات سيده على طواحين الهواء التي تكسّرت فيها سيوفه المتعاقبة.يأخذ التاريخ من الاسطورة شحنتها وليس حمولتها، لهذا فهي احيانا تتخفّى وراء الحدث عندما يكون جسيما، انها ما يضيف الى التاريخ نصفا ثالثا غير مرئي وتعجز أذكى الحواسيب عن احصائه، وتتطلب الاسطورة كي لا تفقد عذريتها وتتحول الى واقعة الى نهاية مفتوحة على آفاق لا تحدّ، لأنها بالاكتمال تفقد جناحيها والوهج الذي يديم نفوذها، وحين نتذكر اساطير الحب والحرب وهي في حالة تداخل دائم، أول ما يقفز الى الذاكرة هو تلك العقبات التي تبتكرها الاسطورة كي يبقى الفعل ناقصا... وهذا ما تجسّده على سبيل المثال اسطورة تريستان وايزولدة سواء بالتعبير الأدبي كما قدّمه ' فاديه' الفرنسي او من خلال الاوبرا كما قدّمها ' فاغنر' واذا كان التاريخ قابلا ً للتأطير في شفق وغسق، فإن الاسطورة لا تقبل ذلك، لأنها المزاوجة السحرية بين ظهيرة سوداء وعتمة بيضاء، وبين الوصال المتعذّر والوصول الناقص، انها موجة تصل الى الشاطىء ولا تصل، اما ما يعقبها من موجات تكرر المحاولة فذلك على سبيل الاعتذار فقط.

 

غياب عنصر الزمن، عن أي وعي يضاعف من غربة المنفى، وقد يزدوج هذا المنفى ليكون روحيا بقدر ما هو جسدي، فالانسان له ايضا مسقط روح اضافة الى مسقط جسده، وحين كتب الشاعر كفافي وهو حفيد خالقي الاساطير من الاغريق قصيدته ايثاكا اراد ان يقول ان الاقامة في المسافة بين الحلم وتحقيقه أجدى للإنسان، فالطريق الى ايثاكا أجمل وأبهى من ايثاكا، وبالمعنى ذاته كتب برتولد بريخت رغم واقعيته المفرطة فانتازية عن مدينة بيلارس الاسطورية، التي تحقق للمحرومين الوصال، وتشفي الأبرص من مرضه، وتغني الفقير المعدم... لكنه انتهى بعد كل تلك المقدمات الى القول بأن الحالمين صحوا ذات يوم من النوم ليسمعو بأن بيلارس دمّرها الزلزال...ثمة زلزال او قيامة باستمرار يتربصان بتلك اليوتوبيات سواء تعلّقت بالعاشقين او الثوار، فالتّعويل المبالغ فيه على المستقبل يحذف الحاضر، وبالتالي يحوّله الى مديونية صعبة التسديد خصوصا اذا اضاف اليها الزمن نسبة من الرّبا.ان بنيلوب التاريخ لا تقعي على الشاطىء مكتفية بتطريز العصافير على قطعة قماش، وعوليس التاريخ ايضا لا يبدد الوقت في البحث عن بديل للبوصلة المعطوبة، فهي ام تربّي وتطبخ وتقاوم، وهو لا يصارع امواجا فقط، بل قراصنة يعترضونه في الطريق، ولو ادرك التاريخ وما ترتب على حالة الاستنقاع التي دامت عشرين عاما لكنّا على موعد مع نصوص مضادّة، لكن الوعي الابداعي عندما لا يكون مفارقا للوعي السّائد يتردى في المألوف والموروث والواقعي في أدنى ابعاده التسجيلية، وما يحدث اليوم في البحر الابيض المتوسط، مجال الاسطورة بامتياز اغريقي، هو منجم لكتابة محررة من اسطورة عزلاء او تاريخ اشبه برهينة.

 

 

مختارات للشاعرة الايرانية ليلى فرجامي

 

ترجمة سليم هاشم

 

20/08/2010  01:57

 

باسم الماء والأرض .. تتحد النار والريح

 

ليلى فرجامي شاعرة إيرانية وعالمة نفس ولدت في طهران عام 1972 ، هاجرت مع عائلتها إلى الولايات المتحدة عام 1986 هربا من جحيم الحرب العراقية الايرانية.كتبت أولى قصائدها في عمر السادسة عشرة ، وأغلب نصوصها الشعرية ما زالت في لغتها الأم الفارسية..حصلت فرجامي على شهادة عليا في علم النفس وعاشت في جنوب كاليفورنيا، وكانت قد نشرت ديونها الأول : ( سبعة بحار .. قطرة ندى واحدة) ، في طهران عام 2000 عن دار روزكار ، ثم نشرت بعد ذلك كتابا شعريا آخر بعنوان ( رسائل الاعتراف ) واعترافات فتيات السوء ،وديوان جديد حمل عنوان ( مأزق بوذا).ونشرت هذا العام كتابا شعريا حمل عنوان ( ورد ) .فضلا عن ترجمتها للكثير من الأعمال الشعرية الفارسية إلى الانكليزية. وتمارس فرجامي علاج مجاميع من المرضى النفسيين جنوب كاليفورنيا وتؤسس لكثير من البرامج النفسية المتعلقة بالصدمات النفسية للأطفال، فضلا عن إيمانها بقدرة الفن على علاج المرضى النفسيين تنتمي فرجامي إلى جيل الشعراء الشبان الذين تأثروا بتجربة فروغ فرخزاد الشعرية وتمردها وحساسيتها الشعرية، نشرت فرجامي نصوصها الشعرية في اكثر المجلات الأدبية شهرة مثل سيمورغ ، بخارى ، باران ،ماكس، كيلك، غابيل ،جوهران وكارنامه. شعر ليلى فرجامي في كثير منه محاولة لتحدي الحكمة الايرانية التقليدية، وسعت فرجامي إلى ان تحول قصائدها إلى ملصقات جامعة ضخمة عن البؤس الإنساني في عالم الشرق،واعتمدت ادخال عذابات الانسان الشرقي إلى عقل القارئ بقوة ،عبر الكثير من المقترحات الشعرية من أجل ايصال الفهم الخانق لمعنى الحياة، فدائما هناك دموع تذرف في القصيدة ، ولهاث انساني ممزوج بمأساة يومية ،ثمة عذاب يرافق القارئ وسط هذه الأجواء الشعرية التي تتحدى الذائقة العامة الايرانية ، لم تتوقف فرجامي عن إدانة الحروب العبثية، لم تتوقف عن رثاء الطفولات الضائعة،عن تقريع الموت الذي تؤنسنه فرجامي بجرأة، لم تتوقف عن عرض بذاءة العالم المعاصر، عن الحصار الذي يلف روح الإنسان الشرقي..وهو ما جاهدت فرجامي من أجله ، من أجل إيجاد فرصة للاعتذار من الروح الإنسانية المعذَّبة في الشرق . القصائد التي ننشرها هنا مختارات من عدة مراحل شعرية لفرجامي نأمل أن تقدم صورة عن شعرها حتى وإن كانت هذه الصورة اجمالية فالهدف منها في النهاية الإشارة إلى تجربة شعرية تشكل امتدادا للشعر الإيراني المعاصر.

 

مأزق بوذا

 

لا تكترث

 

بينما تتساقط جذوع الأشجار

 

الغابات تحترق ولا تبالي

 

تتشظى أمك وأنت تأمن حلاوة ثدييها حتى منتصف الليل

 

لممر بخاري

 

ممتلئ بأصوات أجنحة مطمورة

 

داخل مدينتك المطلقة

 

ويموت أبوك وتدفع مشطه

 

الملئ بالشعر الأبيض إلى جيبك الخلفي

 

كما تدفن طقم أسنانه الصفر في شجيرات صمغ الأرض المعذّبة

 

نحن نغني حين تصفر

 

ونقبل حين تصفر

 

نحن لا نبالي ..

 

لمَ لمْ يظهر الإمام الغائب ثانية

 

بعد ما أقسم على العودة..

 

عند احتراق الأطفال داخل صفوفهم

 

مع المساطر والدفاتر والسبورات والمماحي

 

حين يضحون في دوائر مربعة هؤلاء الذين تصلبوا

 

وهم يتفحمون في الجمر.

 

كلا ... لن يظهر الإمام ثانية

 

لا نبالي إن لم نستطع ابتلاع حبات الكرز ثانية

 

حال وقوفنا تحت المطر

 

ونمارس الحب مثل شبحين مظلمين

 

قبل أن تصبغني حزمة الأجنحة،

 

أعلم أنك والدهم

 

كلا.. لا نبالي

 

لن نكون بشراً أبداً

 

إذن دعونا نكون قملاً مقبولاً في الأقل (أو لطيفاً)

 

القمل الذي يزخرف شعر فتاة

 

في مزار شريف

 

الفتاة التي ستفقد قريباً أصابعها ومشطها الحزين .

 

دعنا نكون قملاً مقبولاً

 

ذلك هو مأزق بوذا:

 

أين ستؤمن بربك

 

حين يكون داخلك سلاح؟

 

رسالة إلى أبي

 

أبي :

 

الرسالة هذه .. أقول فيها وداعاً لجميع البالونات

 

التي فرَّت خيوطها القصيرة من يديّ في ألعاب مرتبكة

 

وصارت نهباً لملائكة الريح.

 

هذه رسالة لانفجار الشرايين الصغيرة تحت ابزيم

 

حزام جدي

 

في نتانة الكحول الحادة ومجامر الأفيون الملتهبة،

 

مهشم ومتلاشٍ في التربة مثل دمٍ واهن.

 

هذه رسالة لكل الثلج الذي استقر فوق ابهاميك

 

عارضاً على جزمتيك الممزقتين هجرةً مؤقتة

 

تحت شارته البيضاء.

 

هذه رسالة لكل الثلج الذي اعتاد مشاركة اللون ذاته في طفولتك،

 

تلك البراءة النائية

 

تغطي جسدك مثل ثوب كاهن مخفي

 

وهو يتحول إلى بزة جندي غاضب

 

راغباً،

 

خلاقاً

 

وقاتلاً للأعداء.

 

هذه رسالة إلى كل الثلج الذي ذاب في ميادين الحرب

 

ولم يخمد النار الملتهبة في خنادق قلبك،

 

هذه رسالة إلى المخاوف المصطادة في كهوف روحي

 

تلك الأفاعي الغادرة وهي تبرز رؤوسها من جحور مظلمة ... زاحفة تلدغ في ضوء الشمس.

 

هذه رسالة من فتاة لا يمكنها أن تصغر كي تمدّ ذراعيها إلى ذراعيك

 

كي تعبر فوق جداول ماء متدفق.

 

أبي

 

هذه رسالة إلى مدفن رنين الكلمات الموروث

 

في صندوق أصوات دارنا القديم.

 

هذه رسالة لهذا اليوم:

 

لليوم الذي عفوت عنه.

 

نافذة

 

من نافذة مفتوحة على ممر

 

وممر مفتوح على وهم الشارع

 

الشارع الذي تمر خلاله آلاف الحقائب الملونة

 

لتزاوج بين شرايين المارة الأبرياء وشفرة المجزرة الدامية

 

فتاة بعينين أليفتين تحدق في

 

جثة طفولتها

 

من نافذة مفتوحة على رصيف خارجي.

 

رسائل إعتراف

 

لا يزال المطر يهطل ..

 

ولم يصل أبي إلى الآن

 

لقد اعتاد المجيء متأخراً

 

وأمي لم تزل تمعن في هذه الفكرة :

 

هل صعود السلم ونزوله لا يذيب الشحم؟

 

والدتي تطيل التفكير.

 

أنا فتاة سيئة

 

دفعت حياتي داخل بئر

 

بخيط سري

 

لإخراج العشاق واحداً بعد الآخر

 

احددهم كما يوسف النبي.

 

فتاة سيئة أنا

 

لتحولي إلى حوت يونس

 

أو روح عيسى

 

أو عصا موسى

 

أو ماء قيصر الخالد

 

ويد عابثة تفلق القمر نصفين.

 

اللعنة!

 

تمنيت لو لم أُظهر المعجزات!

 

وهل يحتاج النمل إلى التجوال

 

كي يؤمن بالضوء والصوت والهواء؟

 

أنا فتاة سيئة

 

لم تصبح سندريلا أبداً

 

 (ماهذا الإرباك)!

 

ولم أفقد فردة حذائي الكرستالي

 

جنب قصر الأمير الثري

 

أنا فتاة سيئة بلا شك

 

لأن الفتيات الشريرات

 

يركضن خلف خيول القمر الفضية

 

حافيات فوق أسلاك شائكة من دون أن يطلقن تنهيدة واحدة

 

لأن الفتيات السيئات

 

يعرفن طبيعة المرايا

 

ويطهّرن مفاقس الزئبق

 

خلال أنفاسهن

 

حتى إفشاء الزجاج

 

الزجاج الرقيق

 

مثل الناس فالجميع يتناثر

 

حين تنظر في عيونهم

 

 (وحتى آلهتهم تتناثر

 

حين تنظر في عيونها

 

وتنهار ساقطة إلى الأرض :

 

فقانون الإدراك الكوني

 

يحدد بالعواصف دائماً).

 

أمي تطيل التفكير

 

بينما يصل أبي إلى البيت

 

ملتقطاً تفاحات لم تنضج بعد

 

من حقيبة أوراقه

 

واضعاً إياها أمام فمي المغلق

 

وهو يقول : أهلاً .. أهلاً .. أهلاً .. أهلاً.

 

أنا فتاة سيئة

 

صامتة وحيدة

 

في تحياتي عند الوداع.

 

نبي البحر

 

لا مسافة بيني وبين الشاطئ

 

إذ يمكنني رؤية قواقع البحر كلها

 

ووجبات الرمل

 

في أفواه السمك الميت

 

وكل الجالسين تحت الشمس

 

وكل الرياح المندفعة من الشرق إلى الغرب

 

ويمكنني الغرق أيضاً

 

دون أن يعرف أحد

 

يمكنني أن أغدو الرجل

 

الذي نام داخلي لسنين

 

باحثاً بين الماء عن مرآة

 

لم تزل تحتفظ بانعكاس

 

طيور بيض تسهب ظلالها

 

عبر سماء شعثاء

 

يمكنني أن أصبح مثل الرجل

 

الذي نام داخلي لسنين

 

مستيقظاً في عاصفة

 

ولن يعثر عن طريق نحو اليابسة.

 

أفضل زوج لديّ

 

إمرأة متزوجة أنا

 

الموت زوجها.

 

الموت زوجي ...

 

يقبل شفتي قبل الذهاب إلى العمل

 

حاملاً حقيبة ملأى بالتعازي.

 

برقّة يغلق الباب خلفه

 

خشية أن يعرف الجار وقت وجوده

 

مثيراً أعصاب عزرائيل

 

الذي يعمل بوقت إضافي منذ الخليقة.

 

لم يضربني الموت يجناحيه

 

أو يرشوني حتى

 

الموت يدرك جيداً

 

أن لا يمكنني طلاقه أو القبول بغريم له

 

يخبرني أنه يعشق أسناني وجمجمتي

 

وعمودي الفقري بجنون،

 

وهو الذي سيحمي فكي ومعصمي الناعمين

 

بحجم ديناصور صغير يدعى: "صلة مفقودة"

 

داخل متحف عشاقه الأثري

 

والموت وفيٌّ جداً ... لم يتركني لأجل زوجة أخرى

 

وكريم جداً ... يضمن لي كل أرض أريد..

 

وحينما يجتاجني الحنين إلى الماضي

 

العيش على الأرض

 

يوجهني الموت نحو أجنحة مفروشة فوق عتبة الباب

 

هامساً : رحلة تأمل أنا إمرأة ميتة.

 

اعترافات فتيات السوء

 

تحية عزيزي

 

فكرت أن اكتب إليك كي لا تقلق

 

يقولون انهم شخّصوا مرضي

 

هل تعلم عزيزي

 

كنتُ عاشقة كبيرة

 

عاشقة الحجر والطين على جانب الطريق

 

عاشقة جسد الطفل الرقيق وهو يدفن تحت التراب

 

عاشقة الأبقار التي جف حليبها في أشهر القحط

 

عاشقة لورق الحائط الممزق المتسخ في المطابخ القديمة

 

عاشقة لبطانية أشم منها رائحة امرأة نامت مع الأرواح

 

عاشقة لحقائق قصيرة المدى وكثيرة الغموض

 

عاشقة لتحليق متخيل لبطل سيسقط

 

وعاشقة لك .

 

هل تعلم يا عزيزي

 

كنت وفية جدا

 

وفية لانجذابي للحفر التي حفرها الآخرون وسقطتُ فيها

 

وفية للأكاذيب التي تخجل أن تقول الصدق

 

وفية للأقطاب المليئة بالعيوب

 

للذين يرشدون إلى الضلال

 

وفية لساعات نسيان الزمن الذي يتأخر

 

وفيه للفتوات والدون جوانات ، والسوبرمانات

 

والرجال الاخرين الذين باسم واحد

 

ووفية لك .

 

هل تعلم عزيزي

 

الطبيب يقول انه رأى خناجر كثيرة على ظهري

 

ممتنة أنا لتطور الطب

 

وممتنة أيضا لأجهزة الاشعة والاشعاع المقطعي والام آر أي

 

ليتك تعلم

 

انني لم أنم لسنوات لآلام جروحي

 

التي لا تطاق.

 

أتعلم يا عزيزي

 

فكرت أن اكتب إليك كي لا تقلق

 

يقولون انهم شخصوا مرضي

 

وعلاجي هو التنفس

 

فقط لو أياديك الحنونة تفهم ،

 

أياديك التي

 

كانت حراس سجن حنجرتي

 

فكرت أن اكتب إليك كي لا تقلق .

 

أنا

 

الأوطان بعيدة

 

الأوطان قريبة

 

حاضرة أنا وحية كوطن

 

ابتدأت حلزونية، منقطة، فريدة

 

أبدية كدوامة ، كدوائر مجنونة

 

وفي جاذبية لا تتوقف نحو

 

تنفس منفرد

 

يدعى الحب.

 

مدينة تحت النار

 

الصباح يستدعي أصوات الرصاص

 

والمذاق الرطب لكبريت أعواد الثقاب المشتعلة ليلة أمس

 

تزحف أجساد الجنود المتصلبة

 

مثل توابيت بين المقابر

 

تحت نظام:

 

يسار .. يمين

 

يسار .. يمين

 

يسار .. يمين

 

والسماء التي تهرق دائرتها سائلاً أصفر

 

فوق الجدران الخدرة

 

قبل اختفائها في هدوء.

 

في اليوم الأول للحرب

 

أخرجت مفكرتي

 

لأشطب أيام أعيادي ميلادي كلها

 

وضاعة العدم

 

يغادر عشيقي آخر نَفَس

 

في إيماننا الجريح .. داخل حطام أراضيه المهزومة

 

شؤم ملكي

 

ملكي ...

 

كالموت

 

لا يمكنه إصابة الملوك.

 

البئر

 

صعدت البئر ولم أر شيئاً

 

لا ضوء سوى شجيرات

 

وشجرة تيبست عطشاً

 

بين صخور سماوية

 

عقيمة

 

صعدت البئر ولم أر شيئاً

 

سوى دلو أحلام فارغ

 

يتدلى في خيط العتمة

 

لم أجد شيئاً في ذاتي

 

لكن فراغاً فيها يقول:

 

وهمٌ داخل أوهام

 

مثل بئر داخل آبار عدة.

 

___________

 

شاعر ومترجم عراقي مقيم في النرويج

 

powered by
Soholaunch website builder
 

©2012 Originality Movement / Tayseer Nazmi